الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 160 ] وقال قدس الله روحه : فصل وأما الحج : فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفته وأحكامه .

                وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما : { أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة فقال : من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل } فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله . فراجعه بعضهم في ذلك فغضب . وقال : { انظروا ما أمرتكم به فافعلوه } وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي فلم يحل من إحرامه .

                [ ص: 161 ] ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال : { لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ولولا أن معي الهدي لأحللت } وقال أيضا : { إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر } فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي منهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله .

                فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب " ونمرة " خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك .

                فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بني المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وإنما هو برزخ بين المشعرين : الحلال والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته . وكان يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة [ ص: 162 ] واسمه " إلال " على وزن هلال . وهو الذي تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس .

                فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند " قزح " وهو جبل مزدلفة الذي يسمى : المشعر الحرام وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا .

                ثم دفع بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمي جمرة العقبة ثم رجع إلى منزله بمنى فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنة من الهدي الذي ساقه وأمر عليا فنحر الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلي بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى - وهي الصغرى وهي الدنيا إلى منى والقصوى من مكة - ويختتم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فإن المواقف ثلاثة : عرفة [ ص: 163 ] ومزدلفة ومنى .

                ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بني كنانة فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء .

                وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة . وقد بني بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة ; لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت . وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة .

                { وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة } . ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة وحدها .

                فأخذ فقهاء الحديث : كأحمد وغيره بسنته في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه [ ص: 164 ] فيه السنة .

                فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سفرة واحدة وأحرم في أشهر الحج . كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم . وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل - وإن قالوا : إنه جائز - فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من يقول : إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج كما يقوله الكوفيون . وأما على قول أكثر الفقهاء : أنها صارت قارنة : فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك .

                وكذلك علموا أن من لم يسق الهدي . وقرن بين النسكين لا يفعله . وإن قال أكثرهم - كأحمد وغيره - إنه جائز . فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من قال : إنها كانت قارنة .

                ولم يختلف أئمة الحديث - فقهاء وعلماء كأحمد وغيره - أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه . ومن قال من أصحاب أحمد : إنه تمتع [ ص: 165 ] وحل من إحرامه فقد غلط وكذلك من قال : إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط .

                وأما من توهم من بعض الفقهاء : أنه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للإفراد إذا جمعوا بين النسكين : فهذا لم يروه أحد ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته صلى الله عليه وسلم . فإنه لا خلاف بينهم : أنه صلى الله عليه وسلم لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة . ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هي ولا كان صلى الله عليه وسلم أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين . فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة .

                فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط .

                وسبب غلطه : ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد - منهم : عائشة وابن عمر وغيرهما - : { أنه صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج } وثبت أيضا عنهم { أنه أفرد الحج } [ ص: 166 ] وعامة الذين نقل عنهم : { أنه أفرد الحج } ثبت عنهم أنهم قالوا : { إنه تمتع بالعمرة إلى الحج } . وثبت { عن أنس بن مالك أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لبيك عمرة وحجا } { وعن عمر : أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أتاني آت من ربي - يعني بوادي العقيق - وقال : قل : عمرة في حجة } ولم يحك أحد لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم به إلا عمر وأنس ; فلهذا قال الإمام أحمد : لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا .

                وأما ألفاظ الصحابة : فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه . فهذا التمتع العام يدخل فيه القران . ولذلك وجب عليه الهدي عند عامة الفقهاء . إدخالا له في عموم قوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وإن كان اسم " التمتع " قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته .

                فمن قال منهم " تمتع بالعمرة إلى الحج " لم يرد أنه حل من إحرامه ولكن أراد : أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج لكن لم يبين : هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين [ ص: 167 ] أو أحرم بالحج بعد ذلك ؟ فإن كان قد أحرم قبل الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين وهو لم يكن حل من إحرامه : فهذا يسمى متمتعا ; لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ويسمى قارنا لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة ; ولهذا يسميه بعض أصحابنا " متمتعا " ويسميه بعضهم " قارنا " ويسميه بعضهم بالاسمين وهو الأصوب . وهذا في التمتع الخاص . فأما التمتع العام : فيشمله بلا تردد .

                ومع هذا : فالصواب ما قطع به أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج قبل الطواف ; لقوله : " لبيك عمرة وحجا " ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه : { فصيام ثلاثة أيام في الحج } لأن العمرة دخلت في الحج . كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم .

                وإذا كانت عمرة المتمتع جزءا من حجه فالهدي المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم } وذلك إشارة إلى الهدي المسوق فإنه نذر ; ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره ; لأن نحره إنما يكون عند بلوغه محله وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله ; لأنه تبع له وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر إذ قبل ذلك لا يحل مطلقا ; لأنه يجب عليه أن يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة . فإنه حل حلا مطلقا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية