الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فمن أذاقه من رحمته، ومن كفر أنزل عليه من نقمته، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة" وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة، ومضارها إن كانت ضارة، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين، وما ينشأ عنها كما [ ص: 116 ] ينشأ عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: البخاري في العلم، ومسلم في المناقب "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" ولما كان الأمر كذلك، عطف على قوله: ينصر من يشاء وقوله: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أو على ما تقديره تسبيبا عن قوله: فأقم وجهك للدين القيم فلقد أرسلناك بشيرا لمن أطاع بالخير، ونذيرا لمن عصى بالشر، قوله مسليا لهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأتباعه، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده [ ص: 117 ] وصل إلى حالة اليأس، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر: ولقد أرسلنا بما لنا من العزة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديما وحديثا على نصر أوليائه، قال معلما بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة: من قبلك مقدما له على رسلا أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه، وقال: إلى قومهم إعلاما بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل "إلى قومها" .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان إرسال الله سببا لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال: فجاءوهم بالبينات فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين فانتقمنا أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سببا لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة من الذين أجرموا لإجرامهم، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان، فخذلناهم وكان حقا علينا قهر المجرمين، إكراما لمن عادوهم فينا، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به، قدمه [ ص: 118 ] تعجيلا للسرور وتطييبا للنفوس فقال: وكان أي على سبيل الثبات والدوام حقا علينا أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلف فيه نصر المؤمنين أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها، فليعتد هؤلاء لمثل هذا، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء؟ والآية من الاحتباك: حذف أولا الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانيا الإنعام لدلالة الانتقام عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية