الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر وقول الله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط وقال عطاء فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة يعيد الوضوء وقال جابر بن عبد الله إذا ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء وقال الحسن إن أخذ من شعره وأظفاره أو خلع خفيه فلا وضوء عليه وقال أبو هريرة لا وضوء إلا من حدث ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم وقال طاوس ومحمد بن علي وعطاء وأهل الحجاز ليس في الدم وضوء وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضأ وبزق ابن أبي أوفى دما فمضى في صلاته وقال ابن عمر والحسن فيمن يحتجم ليس عليه إلا غسل محاجمه

                                                                                                                                                                                                        174 حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث فقال رجل أعجمي ما الحدث يا أبا هريرة قال الصوت يعني الضرطة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين ) الاستثناء مفرغ ، والمعنى من لم ير الوضوء واجبا من الخروج من شيء من مخارج البدن إلا من القبل والدبر ، وأشار بذلك إلى خلاف من رأى الوضوء مما يخرج من غيرهما من البدن كالقيء والحجامة وغيرهما ، ويمكن أن يقال : إن نواقض الوضوء المعتبرة ترجع إلى المخرجين : فالنوم مظنة خروج الريح ، ولمس المرأة ومس الذكر مظنة خروج المذي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لقوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط ) فعلق وجوب الوضوء - أو التيمم عند فقد الماء - على المجيء من الغائط ، وهو المكان المطمئن من الأرض الذي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ، فهذا دليل الوضوء مما يخرج من المخرجين . وقوله : أو لامستم النساء دليل الوضوء من ملامسة النساء ، وفي معناه مس الذكر مع صحة الحديث فيه ، إلا أنه ليس على شرط الشيخين ، وقد صححه مالك وجميع من أخرج الصحيح غير الشيخين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عطاء ) هو ابن أبي رباح . وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وغيره بنحوه وإسناده صحيح ، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان ، قالوا لا ينقض النادر ، وهو قول مالك قال : إلا إن حصل معه تلويث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال جابر ) هذا التعليق وصله سعيد بن منصور والدارقطني وغيرهما ، وهو صحيح من قول جابر ، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى مرفوعا لكن ضعفها .

                                                                                                                                                                                                        والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه قالوا : ينقض الضحك إذا وقع داخل الصلاة لا خارجها . قال ابن المنذر : أجمعوا على أنه لا ينقض خارج الصلاة ، واختلفوا إذا وقع فيها ، فخالف من قال به القياس [ ص: 337 ] الجلي ، وتمسكوا بحديث لا يصح ، وحاشا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى . على أنهم لم يأخذوا بعموم الخبر المروي في الضحك بل خصوه بالقهقهة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن ) أي : ابن أبي الحسن البصري ، والتعليق عنه للمسألة الأولى وصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح . والمخالف في ذلك مجاهد والحكم بن عتيبة وحماد قالوا : من قص أظفاره أو جز شاربه فعليه الوضوء . ونقل ابن المنذر أن الإجماع استقر على خلاف ذلك . وأما التعليق عنه للمسألة الثانية فوصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ووافقه على ذلك إبراهيم النخعي وطاوس وقتادة وعطاء وبه كان يفتي سليمان بن حرب وداود ، وخالفهم الجمهور على قولين مرتبين على إيجاب الموالاة وعدمها ، فمن أوجبها قال : يجب استئناف الوضوء إذا طال الفصل ، ومن لم يوجبها قال : يكتفي بغسل رجليه وهو الأظهر من مذهب الشافعي ، وقال في الموطأ [1] : أحب إلي أن يبتدئ الوضوء من أوله ، وقال بعض العلماء من الشافعية وغيرهم : يجب الاستئناف وإن لم تجب الموالاة ، وعن الليث عكس ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال أبو هريرة ) وصله إسماعيل القاضي في الأحكام بإسناد صحيح من طريق مجاهد عنه موقوفا ، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا وزاد " أو ريح " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويذكر عن جابر ) وصله ابن إسحاق في المغازي قال : حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن أبيه مطولا . وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كلهم من طريق ابن إسحاق ، وشيخه صدقة ثقة ، وعقيل بفتح العين لا أعرف راويا عنه غير صدقة ، ولهذا لم يجزم به المصنف ، أو لكونه اختصره ، أو للخلاف في ابن إسحاق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في غزوة ذات الرقاع ) سيأتي الكلام عليها في المغازي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فرمي ) بضم الراء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رجل ) تبين من سياق المذكورين سبب هذه القصة ، ومحصلها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل بشعب فقال : من يحرسنا الليلة ؟ فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليل للحراسة ، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي ، فجاء رجل من العدو فرأى الأنصاري فرماه بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته ، ثم رماه بثان فصنع كذلك ، ثم رماه بثالث فانتزعه وركع وسجد وقضى صلاته ، ثم أيقظ رفيقه فلما رأى ما به من الدماء قال له : لم لا أنبهتني أول ما رمى ؟ قال : كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر وسمى الأنصاري المذكور عباد بن بشر ، والمهاجري عمار بن ياسر ، والسورة الكهف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فنزفه ) قال ابن طريف [2] في الأفعال : يقال نزفه الدم وأنزفه إذا سال منه كثيرا حتى [ ص: 338 ] يضعفه فهو نزيف ومنزوف . وأراد المصنف بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقض الوضوء ، فإن قيل : كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه واجتناب النجاسة فيها واجب ؟ أجاب الخطابي بأنه يحتمل أن يكون الدم جرى من الجراح على سبيل الدفق بحيث لم يصب شيئا من ظاهر بدنه وثيابه ، وفيه بعد . ويحتمل أن يكون الدم أصاب الثوب فقط فنزعه عنه ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه . ثم الحجة قائمة به على كون خروج الدم لا ينقض ، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه .

                                                                                                                                                                                                        والظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطلها بدليل أنه ذكر عقب هذا الحديث أثر الحسن وهو البصري قال : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ، وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع دما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال طاوس ) هو ابن كيسان التابعي المشهور ، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ولفظه " أنه كان لا يرى في الدم وضوءا ، يغسل عنه الدم ثم حسبه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومحمد بن علي ) أي : ابن الحسين بن علي أبو جعفر الباقر ، وأثره هذا رويناه موصولا في فوائد الحافظ أبي بشر المعروف بسمويه من طريق الأعمش قال : سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف ، فقال : لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء . وعطاء هو ابن أبي رباح وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وأهل الحجاز ) هو من عطف العام على الخاص ; لأن الثلاثة المذكورين قبل حجازيون . وقد رواه عبد الرزاق من طريق أبي هريرة وسعيد بن جبير ، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر وسعيد بن المسيب ، وأخرجه إسماعيل القاضي من طريق أبي الزناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهو قول مالك والشافعي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وعصر ابن عمر ) وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وزاد قبل قوله ولم يتوضأ " ثم صلى " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بثرة ) بفتح الموحدة وسكون المثلثة ويجوز فتحها ، هي خراج صغير يقال بثر وجهه مثلث الثاء المثلثة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وبزق ابن أبي أوفى ) هو عبد الله الصحابي ابن الصحابي ، وأثره هذا وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب أنه رآه فعل ذلك . وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه فالإسناد صحيح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن عمر ) وصله الشافعي وابن أبي شيبة بلفظ " كان إذا احتجم غسل محاجمه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والحسن ) أي : البصري ، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة أيضا ولفظه " أنه سئل عن الرجل يحتجم ماذا عليه ؟ قال يغسل أثر محاجمه " .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : وقع في رواية الأصيلي وغيره " ليس عليه غسل محاجمه " بإسقاط أداة الاستثناء ، وهو الذي ذكره الإسماعيلي ، وقال ابن بطال : ثبتت " إلا " في رواية المستملي دون رفيقيه ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وهي في نسختي ثابتة من رواية أبي ذر عن الثلاثة ، وتخريج التعليق المذكور يؤيد ثبوتها ، وقد حكى عن الليث أنه قال : يجزئ المحتجم أن يمسح موضع الحجامة ويصلي ولا يغسله .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 339 ] قوله : ( ابن أبي ذئب ) تقدم أن اسمه محمد بن عبد الرحمن ، والإسناد كله مدنيون إلا آدم وقد دخلها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما كان في المسجد ) ، أي : ما دام ، وهي رواية الكشميهني ، والمراد أنه في ثواب الصلاة ما دام ينتظرها وإلا لامتنع عليه الكلام ونحوه ، وقال الكرماني نكر قوله " في صلاة " ليشعر بأن المراد نوع صلاته التي ينتظرها ، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الصلاة في أبواب صلاة الجماعة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أعجمي ) أي : غير فصيح بالعربية سواء كان عربي الأصل أم لا ، ويحتمل أن يكون هذا الأعجمي هو الحضرمي الذي تقدم ذكره في أوائل كتاب الوضوء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال الصوت ) كذا فسره هنا ، ويؤيده الزيادة المذكورة قبل في رواية أبي داود وغيره حيث قال " لا وضوء إلا من صوت أو ريح " فكأنه قال : لا وضوء إلا من ضراط أو فساء ، وإنما خصهما بالذكر دون ما هو أشد منهما لكونهما لا يخرج من المرء غالبا في المسجد غيرهما ، فالظاهر أن السؤال وقع عن الحديث الخاص وهو المعهود وقوعه غالبا في الصلاة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الوضوء .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية