الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 381 ] فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (فنادته الملائكة) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر: فنادته بالتاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي: فناداه بألف ممالة ، قال أبو علي: هو كقوله تعالى: (وقال نسوة) [ يوسف: 20 ] . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس: "فناداه" بألف . وفي الملائكة قولان . أحدهما: جبريل وحده ، قال السدي ، ومقاتل ، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، تقول: ركبت في السفن ، وسمعت هذا من الناس . والثاني: أنهم جماعة من الملائكة ، وهو مذهب قوم ، منهم ابن جرير الطبري . وفي المحراب قولان . أحدهما: أنه المسجد . والثاني: أنه قبلة المسجد . وفي تسمية محراب الصلاة محرابا ، ثلاثة أقوال . أحدها: لانفراد الإمام فيه ، وبعده من الناس ، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة ، وتباعد ، ذكره ابن الأنباري عن أبيه ، عن أحمد بن عبيد . والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن ، وأشرف المسجد مقام الإمام . والثالث: أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (أن الله يبشرك بغلام) قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله ، فلما حذف الجار منها ، وصل الفعل إليها ، فنصبها . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بكسر "إن" فأضمر القول . والتقدير: فنادته ، فقالت: إن الله يبشرك . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: يبشرك بضم الياء: وفتح الباء ، والتشديد في جميع القرآن إلا في (حم عسق) . (يبشر الله عباده) [ الشورى: 23 ] فإنهما فتحا الياء وضما الشين ، وخففاها . فأما نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، فشددا كل القرآن . وقرأ حمزة: "يبشر" خفيفا في كل القرآن ، إلا قوله تعالى: (فبم تبشرون) [ الحجر: 54 ] . وقرأ الكسائي "يبشر" مخففة في [ ص: 382 ] خمسة مواضع ، في (آل عمران) في قصة زكرياء ، وقصة مريم ، وفي بني (إسرائيل) ، وفي (الكهف) وفي (حم عسق) قال الزجاج: وفي "يبشرك" ثلاث لغات . أحدها: يبشرك ، بفتح الباء وتشديد الشين . والثانية: "يبشرك" بإسكان الباء ، وضم الشين . والثالثة: "يبشرك" بضم الياء وإسكان الباء ، فمعنى "يبشرك" بالتشديد و"يبشرك" بضم الياء: البشارة . ومعنى "يبشرك" بفتح الياء: يسرك ويفرحك ، يقال: بشرت الرجل أبشره: إذا أفرحته ، وبشر الرجل يبشر: إذا فرح .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد الأخفش والكسائي:


                                                                                                                                                                                                                                      وإذا لقيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل

                                                                                                                                                                                                                                          فأعنهم وابشر بما بشروا به
                                                                                                                                                                                                                                      وإذا هم نزلوا بضنك فانزل



                                                                                                                                                                                                                                      فهذا على بشر يبشر: إذا فرح . وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور ، ومنه قولهم: يلقاني ببشر . أي: بوجه منبسط ، وفي معنى تسميته "يحيى" خمسة أقوال . أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه ، قاله ابن عباس . والثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، قاله قتادة . والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز ، قاله مقاتل . والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها ، قاله الزجاج . والخامس: لأن الله أحياه بالطاعة ، [ ص: 383 ] فلم يعص ، ولم يهم ، قاله الحسن بن الفضل . وفي "الكلمة" قولان . أحدهما: أنها عيسى ، وسمي كلمة ، لأنه بالكلمة كان ، وهي "كن" وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر ، وقتل يحيى قبل رفع عيسى . والثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته ، وهو قول أبي عبيدة في آخرين ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة ، أي: قصيدة . وفي معنى السيد ثمانية أقوال . أحدها: أنه الكريم على ربه قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني: أنه الحليم التقي ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضحاك . والثالث: أنه الحكيم ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والربيع ، ومقاتل . والرابع: أنه الفقيه العالم ، قاله سعيد بن المسيب . والخامس: أنه التقي ، رواه سالم عن ابن جبير . والسادس: أنه الحسن الخلق ، رواه أبو روق عن الضحاك . والسابع: أنه الشريف ، قاله ابن زيد . والثامن: أنه الذي يفوق قومه في الخير ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري: السيد هاهنا: الرئيس ، والإمام في الخير . فأما "الحصور" فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كأنه محصور عنهن ، أي: محبوس عنهن . وأصل الحصر: الحبس . ومما جاء على "فعول" بمعنى "مفعول" ركوب بمعنى مركوب ، وحلوب بمعنى محلوب ، وهيوب بمعنى مهيب . واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال . أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النساء ، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا" قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عودا صغيرا ، ثم قال: "وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا" وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة . [ ص: 384 ] . والثاني: أنه كان لا ينزل الماء ، قاله ابن عباس ، والضحاك . والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي . والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها ، ذكره الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ونبيا من الصالحين) قال ابن الأنباري: معناه: من الصالحي الحال عند الله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية