الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس )

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) فقال بعضهم : معناه . وجاهدوا المشركين في سبيل الله حق جهاده .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) كما جاهدتم أول مرة ، فقال عمر من أمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال عمر صدقت .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تخافوا في الله لومة لائم ، قالوا : وذلك هو حق الجهاد .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) لا تخافوا في الله لومة لائم .

وقال آخرون : معنى ذلك : اعملوا بالحق ، حق عمله ، وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في روايته نظر .

والصواب من القول في ذلك قول من قال : عنى به الجهاد في سبيل الله ، لأن المعروف من الجهاد ذلك ، وهو الأغلب على قول القائل : جاهدت [ ص: 689 ] في الله ، وحق الجهاد : هو استفراغ الطاقة فيه . قوله ( هو اجتباكم ) يقول : هو اختاركم لدينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله .

وقال ابن زيد في ذلك ، ما حدثني به يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله ( هو اجتباكم ) قال : هو هداكم .

وقوله ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) يقول تعالى ذكره : وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبدكم به من ضيق ، لا مخرج لكم مما ابتليتم به فيه ، بل وسع عليكم ، فجعل التوبة من بعض مخرجا ، والكفارة من بعض ، والقصاص من بعض ، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد عن ابن شهاب ، قال : سأل عبد الملك بن مروان علي بن عبد الله بن عباس عن هذه الآية ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) فقال علي بن عبد الله : الحرج : الضيق ، فجعل الله الكفارات مخرجا من ذلك ، سمعت ابن عباس يقول ذلك .

قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يسأل عن ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) قال : ما هاهنا من هذيل أحد ؟ فقال رجل : نعم قال : ما تعدون الحرجة فيكم ؟ قال : الشيء الضيق ، قال ابن عباس فهو كذلك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس ، وذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال ابن عباس : أهاهنا أحد من هذيل فقال رجل : أنا ، فقال أيضا : ما تعدون الحرج ، وسائر الحديث مثله .

حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا يحيى بن صالح ، قال : ثنا يحيى بن حمزة ، عن الحكم بن عبد الله ، قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث ، عن عائشة ، قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ( [ ص: 690 ] وما جعل عليكم في الدين من حرج ) قال هو الضيق .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا أبو خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : أتدري ما الحرج ؟ قلت : لا أدري ، قال : الضيق ، وقرأ هذه الآية ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) قال : من ضيق .

حدثنا عمرو بن بندق ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة قال : قال لي أبو العالية : هل تدري ما الحرج ؟ قلت : لا قال : الضيق ، إن الله لم يضيق عليكم ، لم يجعل عليكم في الدين من حرج .

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن ابن عون ، عن القاسم أنه تلا هذه الآية ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) قال : تدرون ما الحرج ؟ قال : الضيق .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربي ، ثم دعا ابن عباس أعرابيا ، فقال : ما الحرج ؟ قال : الضيق . قال : صدقت .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( في الدين من حرج ) قال : من ضيق .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) من ضيق في أوقات فروضكم إذا التبست عليكم ، ولكنه قد وسع عليكم حتى تيقنوا محلها .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عثمان بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) قال : هذا في هلال شهر رمضان إذا شك فيه الناس ، وفي الحج إذا [ ص: 691 ] شكوا في الهلال ، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليهم وأشباهه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما جعل في الإسلام من ضيق ، بل وسعه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق هو واسع ، وهو مثل قوله في الأنعام ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) يقول : من أراد أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل عليه الإسلام ضيقا ، والإسلام واسع .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وما جعل عليكم في الدين من حرج ) يقول : من ضيق ، يقول : جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيقا . وقوله ( ملة أبيكم إبراهيم ) نصب ملة بمعنى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، بل وسعه ، كملة أبيكم ، فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت ، وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الأمر بها ، لأن الكلام قبله أمر ، فكأنه قيل : اركعوا واسجدوا والزموا ملة أبيكم إبراهيم . وقوله ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) يقول تعالى ذكره : سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم المسلمين من قبل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( هو سماكم المسلمين ) يقول الله سماكم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء بن ابن أبي رباح ، أنه سمع ابن عباس يقول : الله سماكم المسلمين من قبل .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا; عن معمر ، عن قتادة ( [ ص: 692 ] هو سماكم المسلمين ) قال : الله سماكم المسلمين من قبل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( هو سماكم المسلمين ) قال : الله سماكم .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله ( هو سماكم المسلمين من قبل ) يقول : الله سماكم المسلمين .

وقال آخرون : بل معناه : إبراهيم سماكم المسلمين; وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم :

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ( هو سماكم المسلمين ) قال : ألا ترى قول إبراهيم ( واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال : هذا قول إبراهيم ( هو سماكم المسلمين ) ولم يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة ، ذكرت بالإيمان والإسلام جميعا ، ولم نسمع بأمة ذكرت إلا بالإيمان ، ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك ، لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسم أمة محمد مسلمين في القرآن ، لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويل ، وقد قال الله تعالى ذكره (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن الله الذي لم يزل ولا يزال . وأما قوله ( من قبل ) فإن معناه : من قبل نزول هذا القرآن في الكتب التي نزلت قبله ، وفي هذا يقول : وفي هذا الكتاب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( هو سماكم المسلمين من قبل ) وفي هذا القرآن .

[ ص: 693 ] حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد ( من قبل ) قال : في الكتب كلها والذكر ( وفي هذا ) يعني القرآن ، وقوله ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) يقول تعالى ذكره اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ، ليكون محمد رسول الله شهيدا عليكم يوم القيامة ، بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين ، أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( هو سماكم المسلمين من قبل ) قال : الله سماكم المسلمين من قبل ( وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم ) بأنه بلغكم ( وتكونوا شهداء على الناس ) أن رسلهم قد بلغتهم . وبه عن قتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي ، كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال الله ( لتكونوا شهداء على الناس ) وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله ( ادعوني أستجب لكم ) .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي ، كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك حرج ، فقال الله ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) قال : وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال الله ( لتكونوا شهداء على الناس ) وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله ( ادعوني أستجب لكم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية