الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              552 (باب تيمم الجنب).

                                                                                                                              وأورده النووي في الباب المتقدم.

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 60- 61 ج 4 المطبعة المصرية.

                                                                                                                              99 [حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نمير، جميعا عن أبي معاوية. قال أبو بكر: ، حدثنا أبو معاوية، ، عن الأعمش، ، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى. فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة؟

                                                                                                                              [ ص: 38 ] فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا. فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ؟.

                                                                                                                              فقال عبد الله : لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة. ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه؟
                                                                                                                              .

                                                                                                                              فقال عبد الله: أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ ]. .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن شقيق) : قال: كنت جالسا مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة):

                                                                                                                              ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ؟

                                                                                                                              [ ص: 39 ] اختلف في "الصعيد"، فالأكثرون على أنه هنا هو "التراب". وقال الآخرون: هو جميع ما صعد على الأرض.

                                                                                                                              وأما "الطيب" فالأكثرون على أنه "الطاهر. وقيل "الحلال"، قاله النووي.

                                                                                                                              قال الشوكاني في "وبل الغمام": تخصيص "الصعيد" بالتراب ممنوع؛ ففي القاموس: الصعيد" التراب، أو وجه الأرض. انتهى.

                                                                                                                              قال: "والثاني" هو الظاهر من لفظ "الصعيد"، لأنه ما صعد أي: علا، وارتفع على وجه الأرض. وهذه الصفة لا تختص بالتراب.

                                                                                                                              ويؤيد ذلك حديث: "جعلت لي الأرض مسجدا، وطهورا" وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره.

                                                                                                                              وما ثبت في رواية بلفظ: "وتربتها طهورا" كما أخرجه مسلم من حديث "حذيفة" فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك، عند عدم الماء.

                                                                                                                              لأن غاية ذلك: أن لفظ "التراب" دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض، لا يشاركه في "الطهور" به. وهذا مفهوم "لقب"، لا ينتهض التخصيص عموم الكتاب والسنة.

                                                                                                                              ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول. فيكون ذكر "التراب" في تلك الرواية من باب التنصيص، على بعض أفراد العام.

                                                                                                                              وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث.

                                                                                                                              [ ص: 40 ] ووجه ذكره، أنه: الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة. ويؤيده تيممه صلى الله عليه وسلم من جدار.

                                                                                                                              وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابا منبتا، لقوله تعالى:

                                                                                                                              ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ) .

                                                                                                                              فغير مفيد للمطلوب، إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر.

                                                                                                                              والضرورة تدفعه، وأن التراب المختلط بالأزبال، أجود إخراجا للنبات. انتهى.

                                                                                                                              وقال في "السيل الجرار": قالوا: الصعيد هو التراب، وهذا غير مسلم، فإنه قال في المصباح: إن الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره.

                                                                                                                              قال الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك. انتهى.

                                                                                                                              قال: ومما يعين التراب ويفيد أنه المراد، أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس، وغيره، فسروا الصعيد بالتراب، وبما صعد على وجه الأرض، فجعلوا التراب أحد معاني الصعيد.

                                                                                                                              والروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنييه.

                                                                                                                              ثم ورد ذكر التراب في غير حديث مرفوعا.

                                                                                                                              "منها": "وجعل التراب لي طهورا" وقد كان التيمم في زمن النبوة [ ص: 41 ] بالتراب، لا يعرف غير ذلك، فالتعويل على ما هو محتمل من اللفظ لا ينبغي لمنصف انتهى.

                                                                                                                              قلت: وفي هذه العبارة الأخيرة، رائحة الرجوع من القول الأول المذكور.

                                                                                                                              وأما مذاهب الفقهاء في ذلك: فذهب الشافعي، وأحمد، وابن المنذر، وداود الظاهري، وأكثر الفقهاء، إلى أنه: لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر، له غبار، يعلق بالعضو.

                                                                                                                              وقد أخرج الشافعي: "أنه صلى الله عليه وسلم حته" أي الحائط الذي تيمم منه.

                                                                                                                              وفيه "إبراهيم" شيخ الشافعي متكلم فيه. لكن قال الشوكاني "في السيل": إنه لم يرو أنه كان معمورا من الحجر، بل الظاهر أنه معمور بالطين.

                                                                                                                              وإذا كان كذلك، فالضرب فيه، لا يبعد أن يعلق باليد من تربته ما له أثر تمسح به. انتهى.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة، ومالك: يجوز بجميع أنواع الأرض، حتى بالصخرة المغسولة، وبكل ما اتصل بالأرض، من الخشب أو غيره.

                                                                                                                              وذهب الأوزاعي، والثوري، إلى أنه: يجوز بالثلج وكل ما على الأرض.

                                                                                                                              قلت: والأول أولى، وإن كان الثاني له وجه.

                                                                                                                              (فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك) أي قرب وأسرع.

                                                                                                                              [ ص: 42 ] "وفيه" رد على بعض أهل اللغة القائل: بأن "أوشك" لا يقال، وإنما يستعمل مضارعا.

                                                                                                                              قال النووي: ومما يدل عليه، هذا الحديث. مع أحاديث كثيرة في الصحيح مثله.

                                                                                                                              (إذا برد عليهم الماء، أن يتيمموا بالصعيد). قال الجوهري: (برد) بضم الراء، والمشهور الفتح.

                                                                                                                              (فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار) بن ياسر: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت. فلم أجد الماء. فتمرغت في الصعيد، كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا"؛ ثم ضرب بيديه الأرض - ضربة واحدة -. ثم مسح الشمال على اليمين. وظاهر كفيه ووجهه؟).

                                                                                                                              "فيه" دلالة لمذهب من يقول: يكفي ضربة واحدة للوجه والكفين جميعا.

                                                                                                                              قال في "السيل الجرار": قد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وعلمه غيره، كما في الصحيحين، وغيرهما من حديث عمار.

                                                                                                                              والحاصل: أن جميع الأحاديث الصحيحة، ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط؛ وجميع ما ورد في الضربتين، أو كون [ ص: 43 ] المسح إلى المرفقين، لا يخلو من ضعف، يسقط به عن درجة الاعتبار، ولا يصلح للعمل عليه، حتى يقال: إنه مشتمل على الزيادة، والزيادة يجب قبولها.

                                                                                                                              فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. انتهى. (فقال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟). رضي الله عنهما.

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى: "فقال عمر: اتق الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به" معناه: اتق الله فيما ترويه، وتثبت، فلعلك نسيت أو اشتبه عليك الأمر.

                                                                                                                              فقال: إن رأيت المصلحة في إمساكي عن التحديث به راجحة على مصلحة تحديثي به، أمسكت. فإن طاعتك واجب علي في غير المعصية.

                                                                                                                              وأصل تبليغ هذه السنة، وأداء العلم، قد حصل. فإذا أمسك بعد هذا لا يكون داخلا فيمن كتم العلم.

                                                                                                                              ويحتمل أنه أراد: لم أحدث به تحديثا شائعا، بحيث يشتهر في الناس. بل لا أحدث به إلا نادرا.

                                                                                                                              وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة؛ غير حديث عمار، فلا يضر ما قال عمر لعمار في هذه المسألة؛ بل إنما نسي القصة، واشتبه الأمر على عمر رضي الله عنه دون عمار. فكان كما قيل رمتني بدائها وانسلت. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية