الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون تفريع على جملة " أفأنت تسمع الصم " إلى آخرها المتضمنة إيماء إلى التأسيس من اهتدائهم ، والصريحة في تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - من شدة الحرص في دعوتهم ، فجاء هنا تحقيق وعد بالانتقام منهم ، ومعناه : الوعد بإظهار الدين إن كان في حياة النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته ، ووعيدهم بالعقاب في الدنيا قبل عقاب الآخرة ، فلأجل الوفاء بهذين الغرضين ذكر في هذه الجملة أمران : الانتقام منهم لا محالة ، وكون ذلك واقعا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته . والمفرع هو فإنا منهم منتقمون وما ذكر معه ، فمراد منه تحقق ذلك على كل تقدير .

و ( إما ) كلمتان متصلتان أصلهما ( إن ) الشرطية و ( ما ) زائدة بعد ( إن ) ، وأدغمت نون ( إن ) في الميم من حرف ( ما ) ، وزيادة ( ما ) للتأكيد ، ويكثر اتصال فعل الشرط بعد ( إن ) المزيدة بعدها ( ما ) بنون التوكيد زيادة في التأكيد ، ويكتبونها بهمزة وميم وألف تبعا لحالة النطق بها .

والذهاب به هنا مستعمل للتوفي بقرينة قوله " أو نرينك الذي وعدناهم " لأن الموت مفارقة للأحياء فالإماتة كالانتقال به ، أي تغييبه ولذلك يعبر عن الموت بالانتقال . والمعنى : فإما نتوفينك فإنا منهم منتقمون بعد وفاتك .

[ ص: 218 ] وقد استعمل منتقمون للزمان المستقبل استعمال اسم الفاعل في الاستقبال ، وهو مجاز شائع مساو للحقيقة والقرينة قوله فإما نذهبن بك .

والمراد بـ الذي وعدناهم الانتقام المأخوذ من قوله فإنا منهم منتقمون . وقد أراه الله تعالى الانتقام منهم بقتل صناديدهم يوم بدر ، قال تعالى يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون والبطشة هي بطشة بدر .

وجملة فإنا منهم منتقمون جواب الشرط ، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية ، وإنما صيغ كذلك للدلالة على ثبات الانتقام ودوامه ، وأما جملة " فإنا عليهم مقتدرون " فهي دليل جواب جملة أو نرينك الذي وعدناهم المعطوفة على جملة الشرط لأن اقتدار الله عليهم لا يناسب أن يكون معلقا على إراءته الرسول - صلى الله عليه وسلم - الانتقام منهم ، فالجواب محذوف لا محالة لقصد التهويل . وتقديره : أو إما نرينك الذي وعدناهم ، وهو الانتقام تر انتقاما لا يفلتون منه فإنا عليهم مقتدرون ، أي متقدرون الآن ، فاسم الفاعل مستعمل في زمان الحال وهو حقيقته .

ولا يستقيم أن تكون جملة " فإنا منهم منتقمون " دليلا على الجواب المحذوف لأنه يصير : أو إما نرينك الانتقام منهم فإنا منهم منتقمون .

وتقديم المجرورين منهم وعليهم على متعلقيهما للاهتمام بهم في التمكن بالانتقام والاقتدار عليهم .

والوعد هنا بمعنى الوعيد بقرينة قوله قبله فإنا منهم منتقمون ، فإن الوعد إذا ذكر مفعوله صح إطلاقه على الخير والشر ، وإذا لم يذكر مفعوله انصرف للخير وأما الوعيد فهو للشر دائما .

والاقتدار : شدة القدرة ، واقتدر أبلغ من قدر . وقد غفل صاحب القاموس عن التنبيه عليه .

وقد اشتمل هذان الشرطان وجواباهما على خمسة مؤكدات وهي ( ما ) الزائدة ، ونون التوكيد ، وحرف ( إن ) للتوكيد ، والجملة الاسمية ، وتقديم المعمول على منتقمون .

[ ص: 219 ] وفائدة الترديد في هذا الشرط تعميم الحالين حال حياة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحال وفاته . والمقصود : وقت ذينك الحالين لأن المقصود توقيت الانتقام منهم .

والمعنى : أننا منتقمون منهم في الدنيا ، سواء كنت حيا أو بعد موتك ، أي فالانتقام منهم من شأننا وليس من شأنك لأنه من أجل إعراضهم عن أمرنا وديننا ، ولعله لدفع استبطاء النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو المسلمين تأخير الانتقام من المشركين ولأن المشركين كانوا يتربصون بالنبيء الموت فيستريحوا من دعوته فأعلمه الله أنه لا يفلتهم من الانتقام على تقدير موته ، وقد حكى الله عنهم قولهم نتربص به ريب المنون ففي هذا الوعيد إلقاء الرعب في قلوبهم لما يسمعونه .

التالي السابق


الخدمات العلمية