الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب، أمره مما يدخره لذلك توسلا إليه، وتخضعا لديه، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه، فقال: يا بني مكررا للمناداة على هذا الوجه تنبيها على فرط النصيحة لفرط الشفقة أقم الصلاة أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها، سعيا في نجاة نفسك وتصفية سرك، فإن إقامتها - وهي الإتيان بها على النحو المرضي - مانعة من الخلل في العمل إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد، وترك ذكر الزكاة تنبيها على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية لحق الحق، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق، وذلك أنه لما [ ص: 174 ] كان الناس في هذه الدار سفرا، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو، أمره بما يكمل نجاته بتكميل رفيقه، وقدمه - وإن كان من جلب المصالح - لأنه يستلزم ترك المنكر، وأما ترك المنكر فلا يستلزم فعل الخير، فإنك إذا قلت: لا تأت منكرا، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية، لا فعل الطاعة، فقال: وأمر بالمعروف أي كل من تقدر على أمره تهذيبا لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم، وكانت المعاصي مفسدة لها، وكان فساد السفينة مغرقا لكل من فيها: من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده، وكان الأمر بالمعروف نهيا عن المنكر، صرح به فقال: وانه أي كل من قدرت على نهيه عن المنكر حبا لأخيك ما تحب لنفسك، تحقيقا لنصيحتك، وتكميلا لعبادتك، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى:


                                                                                                                                                                                                                                      ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم



                                                                                                                                                                                                                                      لأنه أمره أولا بالمعروف، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، فإذا أمر نفسه ونهاها، ناسب أن يأمر غيره وينهاه، وهذا وإن كان [ ص: 175 ] من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما إن أمرهم ونهاهم، قال تعالى: واصبر صبرا عظيما بحيث يكون مستعليا على ما أي الذي، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة، فقال: أصابك أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة

                                                                                                                                                                                                                                      واستعينوا بالصبر والصلاة واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين، المخاطب هنا مؤمن متقلل، وهناك كافر متكثر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل: إن ذلك أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب: من عزم الأمور أي [ ص: 176 ] معزوماتها، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر، أي الأمور المقطوع بها المفروضة أو القاطعة الجازمة بجزم فاعلها، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم، وينحو إليها بكليته الجازم، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية