الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1004 ] (6 ) سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      هذه السورة مكية . . من القرآن المكي . . القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاما كاملة ، يحدثه فيها عن قضية واحدة . قضية واحدة لا تتغير ، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر . ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة ، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى !

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان يعالج القضية الأولى ، والقضية الكبرى ، والقضية الأساسية ، في هذا الدين الجديد ، قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية . . الألوهية والعبودية ، وما بينهما من علاقة .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان يخاطب بهذه القضية "الإنسان " . الإنسان بما أنه إنسان . . وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان . كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان . في ذلك الزمان وفي كل زمان !

                                                                                                                                                                                                                                      إنها قضية "الإنسان " التي لا تتغير ، لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره . قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء ، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء . . وهي قضية لا تتغير ، لأنها قضية الوجود والإنسان !

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله . . كان يقول له : من هو ؟ ومن أين جاء ; وكيف جاء ; ولماذا جاء ؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف ؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول ؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك ؟ . . وكان يقول له : ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه ؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار ؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره ؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه ؟ . . وكان يقول له كذلك : كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ، ومع الكون أيضا ، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد .

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود "الإنسان " . وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده ، على توالي الأزمان . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى . القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات . . [ ص: 1005 ] ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ; وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصحاب الدعوة إلى دين الله ، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة ، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ، ويعبدهم له دون سواه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب ! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى : "إله " ومعنى : "لا إله إلا الله " . . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا . . وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها ، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، ورده كله إلى الله . . السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة . . السلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان . . كانوا يعلمون أن : "لا إله إلا الله " ثورة على السلطان الأرضي ، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية ، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ; وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله . . ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا ، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة : "لا إله إلا الله " - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم . . ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف ، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام . .

                                                                                                                                                                                                                                      فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ؟

                                                                                                                                                                                                                                      لقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ; إنما هي في يد غيرهم من الأجناس !

                                                                                                                                                                                                                                      بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم ، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان . وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس . . وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة ، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك !

                                                                                                                                                                                                                                      وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين ; الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود ، وارتضوا حكمه ، منذ خمسة عشر عاما ; والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا . . كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب ، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات ، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ; الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ; وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة . . [ ص: 1006 ] ولو دعا يومها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة !

                                                                                                                                                                                                                                      وربما قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ; وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . . أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله : وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !

                                                                                                                                                                                                                                      لماذا ؟ إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . . إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . . ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! . . إن الأرض لله ، ويجب أن تخلص لله . ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية : "لا إله إلا الله " . . وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! إن الناس عبيد لله وحده ، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية : "لا إله إلا الله " . . "لا إله إلا الله " كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته : لا حاكمية إلا لله ، ولا شريعة إلا من الله ، ولا سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله لله . . ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الطريق . .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة . . قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها . وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . . والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ; وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا !

                                                                                                                                                                                                                                      وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية ; وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ; وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء !

                                                                                                                                                                                                                                      ولو دعا يومها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة ، لانقسم المجتمع العربي صفين : الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة ، في وجه طغيان المال والشرف . بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه : "لا إله إلا الله " التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وربما قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ; وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . . أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجهه هذا التوجيه . .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . . كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ; يرد الأمر كله لله ; ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع ، ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ; [ ص: 1007 ] ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء . فلا تمتلئ قلوب بالطمع ، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب ! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير : "لا إله إلا الله " . .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .

                                                                                                                                                                                                                                      كان التظالم فاشيا في المجتمع ، تعبر عنه حكمة الشاعر زهير بن أبي سلمى :


                                                                                                                                                                                                                                      ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ، ومن لا يظلم الناس يظلم

                                                                                                                                                                                                                                      ويعبر عنه القول المتعارف : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " .

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله طرفة بن العبد :

                                                                                                                                                                                                                                      فلولا ثلاث هن من زينة الفتى     وجدك لم أحفل متى قام عودي
                                                                                                                                                                                                                                      فمنهـن سبقـي العاذلات بشربـة     كميـت متى ما تعل بالماء تزبــد

                                                                                                                                                                                                                                      .... إلخ

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع . . كالذي روته عائشة رضي الله عنها : إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك . . . (أخرجه البخاري في كتاب النكاح ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية ، تتناول تقويم الأخلاق ، وتطهير المجتمع ، وتزكية النفوس ، وتعديل القيم والموازين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .

                                                                                                                                                                                                                                      وربما قال قائل : إنه لو صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها ، وتزكو أرواحها ، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق ! [ ص: 1008 ] ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق . .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين ، وتقرر القيم ; وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ; كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط ، وبلا سلطان ، وبلا جزاء !

                                                                                                                                                                                                                                      فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد ، ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب : "لا إله إلا الله " . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .

                                                                                                                                                                                                                                      تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله : رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .

                                                                                                                                                                                                                                      وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله ، ويزن بميزان الله ، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ؟ ويسميها راية الإسلام ، لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها : "لا إله إلا الله " !

                                                                                                                                                                                                                                      وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .

                                                                                                                                                                                                                                      وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ; كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعدا واحدا هو الجنة . . هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان ، في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : "لا إله إلا الله " !

                                                                                                                                                                                                                                      فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ; ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ; ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم ، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض . ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . .

                                                                                                                                                                                                                                      لما أن علم الله منهم ذلك كله ، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى . أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر ، وفي الأرواح والأموال ، وفي الأوضاع والأحوال . . وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها ، وعلى عدل الله يقيمونه ، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا [ ص: 1009 ] لجنسهم ; إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته ، لأنهم يعلمون أنه من الله ، هو الذي آتاهم إياه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع ، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء ، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ; المبارك الميسر في حقيقته .

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية ، أو دعوة اجتماعية ، أو دعوة أخلاقية . . أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد : "لا إله إلا الله " . .

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير : "لا إله إلا الله " في القلوب والعقول ، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق . .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها ، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها . . فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا . . فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة . . كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير . . وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان ، الضاربة في الهواء . . لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ، وفي مساحات واسعة ; تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء . . فكذلك هذا الدين . . إن نظامه يتناول الحياة كلها ; ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ; وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها ، ولكن كذلك في الدار الآخرة ; ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ; ولا في المعاملات الظاهرة المادية ، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا . . فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية . . ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا . .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ; يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ; ويجعل بناء العقيدة وتمكينها ، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها . . ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة ، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء ، والضارب من جذورها في الأعماق . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومتى استقرت عقيدة : "لا إله إلا الله " في أعماقها الغائرة البعيدة ، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه : "لا إله إلا الله " وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة . . واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته ، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته . فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان . . وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ; ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له . وهكذا أبطلت الخمر ، وأبطل الربا ، وأبطل الميسر ، وأبطلت العادات الجاهلية كلها ، أبطلت بآيات من القرآن ، أو كلمات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها ، وجندها وسلطانها ، ودعايتها وإعلامها . . فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ; [ ص: 1010 ] بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !

                                                                                                                                                                                                                                      وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم . . إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد . . جاء ليحكم الحياة في واقعها ; ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره . . يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه . . ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض ! إنه منهج يتعامل مع الواقع ! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله ، وأن الحاكمية ليست إلا لله ; ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ; ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية