الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                في القسامة هذا الذي ذكرنا حكم قتل نفس علم قاتلها ، فأما حكم نفس لم يعلم قاتلها - فوجوب القسامة والدية عند عامة العلماء - رحمهم الله تعالى - وعند مالك - رحمه الله - : وجوب القسامة والقصاص ، والكلام في القسامة يقع في مواضع في تفسير القسامة ، وبيان محلها ، وفي بيان شرائط وجوب القسامة والدية ، وفي بيان سبب وجوب القسامة والدية ، وفي بيان من يدخل في القسامة والدية ، وفي بيان ما يكون إبراء عن القسامة والدية أما تفسير القسامة ، وبيان محلها - فالقسامة في اللغة : تستعمل بمعنى الوسامة ، وهو الحسن والجمال ، يقال : فلان قسيم أي حسن جميل ، وفي صفات النبي عليه الصلاة والسلام قسيم ، وتستعمل بمعنى القسم ، وهو اليمين إلا أن في عرف الشرع تستعمل في اليمين بالله - تبارك وتعالى - بسبب مخصوص وعدد مخصوص ، وعلى شخص مخصوص ، وهو المدعى عليه على وجه مخصوص ، وهو أن يقول خمسون من أهل المحلة إذا وجد قتيل فيها : بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، فإذا حلفوا يغرمون الدية وهذا عند أصحابنا - رحمهم الله - وقال مالك رحمه الله : إن كان هناك لوث يستحلف الأولياء خمسين يمينا فإذا حلفوا يقتص من المدعى عليه ، وتفسير اللوث عنده أن يكون هناك علامة القتل في واحد بعينه أو يكون هناك عداوة ظاهرة ، وقال الشافعي - رحمه الله - : إن كان هناك لوث أي عداوة ظاهرة .

                                                                                                                                وكان بين دخوله المحلة وبين وجوده قتيلا مدة يسيرة يقال للولي : عين القاتل ، فإن عين القاتل يقال للولي احلف خمسين يمينا ، فإن حلف فله قولان : في قول يقتل القاتل الذي عينه ، كما قال مالك - رحمه الله - وفي قول يغرمه الدية ، فإن عدم أحد هذين الشرطين اللذين ذكرناهما يحلف أهل المحلة فإذا حلفوا لا شيء عليهم كما في سائر الدعاوى احتجا لوجوب القسامة على المدعي بحديث سهل بن أبي حثمة أنه قال : { وجد عبد الله بن سهل قتيلا في قليب خيبر فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال : عليه الصلاة والسلام الكبر الكبر فتكلم أحد عميه : إما حويصة وإما محيصة الكبير منهما فقال : يا رسول الله ، إنا وجدنا عبد الله قتيلا في قليب من قليب خيبر وذكر عداوة اليهود لهم فقال : عليه الصلاة والسلام يحلف لكم اليهود خمسين يمينا أنهم لم يقتلوه فقالوا : كيف نرضى بأيمانهم ، وهم مشركون فقال : عليه الصلاة والسلام فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه فقالوا : كيف نقسم على ما لم نره فوداه عليه الصلاة والسلام من عنده } ووجه الاستدلال بالحديث أنه عليه الصلاة والسلام عرض الأيمان على أولياء القتيل فدل أن اليمين على المدعي .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال : { جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله ، إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان فقال : عليه الصلاة والسلام اجمع منهم خمسين فيحلفون بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا فقال : يا رسول الله ، ليس لي من أخي إلا هذا ؟ فقال : بل لك مائة من الإبل } فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم وهم أهل المحلة لا على المدعي ، وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : { وجد قتيل بخيبر فقال : عليه الصلاة والسلام أخرجوا من هذا الدم فقالت اليهود : قد كان وجد في بني إسرائيل على عهد سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام فقضى في ذلك ، فإن كنت نبيا فاقض ، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام تحلفون خمسين يمينا ثم يغرمون الدية فقالوا : قضيت بالناموس } أي بالوحي وهذا نص في الباب ، وبه يبطل قول مالك - رحمه الله - بإيجاب القصاص به ; لأن النبي عليه الصلاة والسلام غرمهم الدية لا القصاص ، ولو كان الواجب هو القصاص لغرمهم القصاص لا الدية وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه حكم في قتيل وجد بين قريتين فطرحه على أقربهما وألزم أهل القرية القسامة والدية ، وكذا روي عن سيدنا علي رضي الله عنه ولم ينقل الإنكار عليهما من أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فيكون إجماعا .

                                                                                                                                ( وأما ) حديث سهل ففيه ما يدل على عدم الثبوت ; ولهذا ظهر النكير فيه من السلف ; فإن فيه أنه [ ص: 287 ] عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى أيمان اليهود فقالوا : كيف نرضى بأيمانهم ، وهم مشركون ؟ وهذا يجري مجرى الرد لما دعاهم إليه مع ما أن رضا المدعي لا مدخل له في يمين المدعى عليه ، وفيه أيضا أنه لما قال لهم : يحلف منكم خمسون أنهم قتلوه قالوا : كيف نحلف على ما لم نشهد ، وهذا أيضا يجري مجرى الرد لقوله عليه الصلاة والسلام ثم إنهم أنكروا ذلك لعدم علمهم بالمحلوف عليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم لا علم لهم بذلك ، فكيف استخار عرض اليمين عليهم ، ولئن ثبت فهو مؤول ، وتأويله : أنهم لما قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود فقال لهم عليه الصلاة والسلام يحلف منكم خمسون على الاستفهام أي : أيحلف ؟ إذ الاستفهام قد يكون بحذف حرف الاستفهام كما قال الله - تعالى - جل شأنه - { تريدون عرض الدنيا } أي أتريدون كما روي في بعض ألفاظ حديث سهل أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ على سبيل الرد والإنكار عليهم ، كما قال الله - تبارك وتعالى - { أفحكم الجاهلية يبغون } حملناه على هذا توفيقا بين الدلائل ، والحديث المشهور دليل على ما قلنا ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه } جعل جنس اليمين على المدعى عليه ، فينبغي أن لا يكون شيء من الأيمان على المدعي ، فإن قيل روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة } استثنى القسامة فينبغي أن لا تكون اليمين على المدعى عليه في القسامة ; لأن حكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه - فالجواب : أن الاستثناء لو ثبت فله تأويلان : أحدهما اليمين على المدعى عليه بعينه إلا في القسامة ، فإنه يحلف من لم يدع عليه القتل بعينه ، والثاني : اليمين كل الواجب على المدعى عليه إلا في القسامة فإنه تجب معها الدية ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                وإنما جمعنا في القسامة بين اليمين البتات والعلم إلى آخره ; لأن إحدى اليمينين كانت على فعلهم ، فكانت على البتات ، والأخرى على فعل غيرهم ، فكانت على العلم والله - تعالى - عز وجل - أعلم فإن قيل : أي فائدة في الاستحلاف على العلم ، وهم لو علموا القاتل فأخبروا به لكان لا يقبل قولهم ; لأنهم يسقطون به الضمان عن أنفسهم فكانوا متهمين دافعين الغرم عن أنفسهم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام { لا شهادة للمتهم وقال عليه الصلاة والسلام لا شهادة لجار المغنم ولا لدافع المغرم } ؟ قيل : إنما استحلفوا على العلم إتباعا للسنة ; لأن السنة هكذا وردت لما روينا من الأخبار فاتبعنا السنة من غير أن نعقل فيه المعنى ، ثم فيه فائدة من وجهين : أحدهما : أن من الجائز أن يكون القاتل عبدا لواحد منهم فيقر عليه بالقتل فيقبل إقراره ; لأن إقرار المولى على عبده بالقتل الخطأ صحيح ، فيقال له : ادفعه أو أفده ويسقط الحكم عن غيره ، فكان التحليف على العلم مفيدا ، وجائز أن يقر على عبد غيره ، ويصدقه مولاه فيؤمر بالدفع أو الفداء ويسقط الحكم عن غيره ، فكان مفيدا فجاز أن يكون التحليف على العلم ; لهذا المعنى في الأصل ثم بقي هذا الحكم ، وإن لم يكن لواحد من الحالين عبد كالرمل في الطواف ; لأنه عليه الصلاة والسلام { كان يرمل في الطواف } إظهارا للجلادة والقوة مرآة للكفرة بقوله عليه الصلاة والسلام { رحم الله امرأ أظهر اليوم الجلادة من نفسه } ثم زال ذلك اليوم ثم بقي الرمل سنة في الطواف حتى روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يرمل في الطواف ، ويقول ما أهز كتفي ، ولا أحدا رأيته لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كذا هذا ، والثاني : أنه لا يمتنع أن يكون واحد منهم أمر صبيا أو مجنونا أو عبدا محجورا عليه بالقتل ، ولو أقر به يلزمه في ماله يحلف بالله ما علمت له قاتلا ; لأنه لو قال : علمت له قاتلا ، وهو الصبي الذي أمره بقتله لكان حاصل الضمان عليه ، ويسقط الحكم عن غيره ، فكان مفيدا والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية