الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مالك بن نويرة

لما رجعت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة ، وندم وتحير في أمره ، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا ، فراجعا رجوعا حسنا ولم يتجبرا ، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالدا . وسار خالد بعد أن فرغ من فزارة وغطفان وأسد وطيئ يريد البطاح ، وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره ، وتخلفت الأنصار عن خالد وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ، إن نحن فرغنا من بزاخة أن نقيم حتى يكتب إلينا . فقال خالد : قد عهد إلي أن أمضي ، وأنا الأمير ، ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة وكنت إن أعلمته فاتتني - لم أعلمه ، وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد ؛ لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ، ثم نعمل به ، فأنا قاصد إلى مالك ومن معي ، ولست أكرههم . ومضى خالد وندمت الأنصار وقالوا : إن أصاب القوم خيرا حرمتموه ، وأن أصيبوا ليجتنبنكم الناس . فلحقوه .

ثم سار حتى قدم البطاح ، فلم يجد بها أحدا ، وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع ، وقال : يا بني يربوع ، إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، [ ص: 213 ] وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر . فتفرقوا على ذلك ، ولما قدم خالد البطاح بث السرايا ، وأمرهم بداعية الإسلام ، وأن يأتوه بكل من لم يجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلا ، فإن أذن القوم فكفوا عنهم ، وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا ، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة ، فإن أقروا فاقبلوا منهم ، وإن أبوا فقاتلوهم .

قال : فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع ، فاختلفت السرية فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة ، فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا ، فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ، فأمر خالد مناديا فنادى : أدفئوا أسراكم ، وهي في لغة كنانة القتل ، فظن القوم أنه أراد القتل ، ولم يرد إلا الدفء ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكا ، وسمع خالد الواعية ، فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمرا أصابه ، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك . فقال عمر لأبي بكر : إن سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك . فقال : هيه يا عمر ! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين .

وودى مالكا ، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، ودخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فنزعها وحطمها وقال له : قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك ! وخالد لا يكلمه ، يظن أن رأي أبي بكر مثله ، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه ، فعذره وتجاوز عنه ، وعنفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب . فخرج خالد وعمر جالس فقال : هلم إلي يا ابن أم سلمة . فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلمه .

وقيل : إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا - أخذوا السلاح فقالوا : نحن المسلمون . فقال أصحاب مالك : ونحن المسلمون . قالوا لهم : ضعوا السلاح ، فوضعوه ثم صلوا ، وكان يعتذر في قتله أنه قال : ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا . فقال له : أوما تعده لك صاحبا ؟ ثم ضرب عنقه .

وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ، ويسأله أن يرد عليهم سبيهم ، [ ص: 214 ] فأمر أبو بكر برد السبي ، وودى مالكا من بيت المال . ولما قدم على عمر قال له : ما بلغ بك الوجد على أخيك ؟ قال : بكيته حولا حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة ، وما رأيت نارا قط إلا كدت أنقطع أسفا عليه ؛ لأنه كان يوقد ناره إلى الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه . قال : فصفه لي . قال : كان يركب الفرس الحرون ، ويقود الجمل الثقال ، وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة ، وعليه شملة فلوت ، معتقلا رمحا خطلا ، فيسري ليلته ثم يصبح وكأن وجهه فلقة قمر . قال : أنشدني بعض ما قلت فيه ، فأنشده مرثيته التي يقول فيها :


وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا     فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا



فقال عمر : لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدا . فقال متمم : ولا سواء يا أمير المؤمنين ، لو كان أخي صرع مصرع أخيك لما بكيته . فقال عمر : ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به .

وفي هذه الوقعة قتل الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد ، وهما ابنا أخي خالد ، لهما صحبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية