الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون

                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال الله ظرف لمكر الله أو لمضمر نحو وقع ذلك. يا عيسى إني متوفيك أي: مستوفي أجلك و مؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما لك من قتلهم أو قابضك من الأرض من :توفيت مالي أو متوفيك نائما; إذ روي أنه رفع وهو نائم. وقيل: مميتك في وقتك بعد النزول من السماء و رافعك الآن أو مميتك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل: أماته الله تعالى سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء، وإليه ذهبت النصارى. قال القرطبي: و الصحيح أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري - وهو الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما، و أصل القصة: أن اليهود لما عزموا على قتله عليه الصلاة والسلام اجتمع الحواريون وهم اثنا عشر رجلا في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جميع اليهود فركب [ ص: 44 ] منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله، فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف و ناوله عكازه و ألقي عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، و أما عيسى عليه الصلاة والسلام فكساه الله الريش و النور و ألبسه النور و قطع عنه شهوة المطعم والمشرب، وذلك قوله تعالى: إني متوفيك فطار مع الملائكة، ثم إن أصحابه حين رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهم النسطورية. وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء هم المسلمون. فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم. ورافعك إلي أي: إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي. ومطهرك من الذين كفروا أي: من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم. وجاعل الذين اتبعوك قال قتادة، والربيع، والشعبي، ومقاتل، والكلبي: هم أهل الإسلام الذين صدقوه و اتبعوا دينه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من النصارى. فوق الذين كفروا وهم الذين مكروا به عليه الصلاة والسلام و من يسير بسيرتهم من اليهود، فإن أهل الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة. وقيل: هم الحواريون، فينبغي أن تحمل فوقيتهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحاد في الإسلام و التوحيد. وقيل: هم الروم. وقيل: هم النصارى. فالمراد بالاتباع مجرد الادعاء والمحبة و إلا فأولئك الكفرة بمعزل من أتباعه عليه الصلاة والسلام. إلى يوم القيامة غاية للجعل أو للاستقرار المقدر في الظرف لا على معنى أن الجعل أو الفوقية تنتهي حينئذ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى أن المسلمين يعلونهم إلى تلك الغاية، فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد. ثم إلي مرجعكم أي: رجوعكم بالبعث، و "ثم" للتراخي، وتقديم الجار والمجرور للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد، والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيره من المتبعين له و الكافرين به على تغليب المخاطب على الغائب في ضمن الالتفات، فإنه أبلغ في التبشير والإنذار. فأحكم بينكم يومئذ إثر رجوعكم إلي. فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الدين، وفيه متعلق بـ "تختلفون" و تقديمه عليه لرعاية الفواصل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية