الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 132 ] والكفاءة تعتبر في النكاح في النسب ، وفي الدين والتقوى ، وفي الصنائع ، وفي الحرية ، وفي المال ، ومن له أب في الإسلام أو الحرية لا يكافئ من له أبوان ، والأبوان ( س ) والأكثر سواء ، وإذا تزوجت غير كفء فللولي أن يفرق بينهما ، فإن قبض الولي المهر أو جهز به أو طالب بالنفقة فقد رضي ، وإن سكت لا يكون رضى ، وإن رضي أحد الأولياء فليس ( س ) لغيره ممن هو في درجته أو أسفل منه الاعتراض ، وإن كان أقرب منه فله ذلك ، وإن نقصت من مهر مثلها فللأولياء أن يفرقوا أو يتممه .

التالي السابق


فصل

[ الكفاءة في النكاح ]

( والكفاءة تعتبر في النكاح ) ، وتعتبر في الرجال للنساء للزومه في حقهن ، ولأن الشريفة تعير ويغيظها كونها مستفرشة للخسيس ، ولا كذلك الرجل لأنه هو المستفرش . والأصل فيه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا يزوجن إلا من الأكفاء " ، ولأن المصالح إنما تتم بين المتكافئين غالبا فيشترط ليتم المقصود منه .

قال : وتعتبر ( في النسب ) فقريش بعضهم أكفاء لبعض لا يكافئهم غيرهم من العرب ، والعرب بعضهم أكفاء لبعض لا يكافئهم الموالي ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " قريش بعضهم أكفاء لبعض ، والعرب بعضهم أكفاء لبعض " ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " والموالي بعضهم أكفاء لبعض " ، ولا يعتبر التفاضل في قريش وإن كان أفضلهم بنو هاشم لما روينا ، ولأن النبي [ ص: 133 ] - عليه الصلاة والسلام - زوج ابنته عثمان وكان عبشميا أمويا ، وعلي - رضي الله عنه - زوج ابنته عمر - رضي الله عنه - وكان عدويا . قال محمد : إلا أن يكون نسبا مشهورا كبيت الخلافة تعظيما لها .

قال : ( وفي الدين والتقوى ) حتى إن بنت الرجل الصالح لو تزوجت فاسقا كان للأولياء الرد لأنه من أفجر الأشياء وأنها تعير بذلك ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( عليك بذات الدين تربت يداك " إشارة إلى أنه أبلغ في المقصود . وقال محمد : لا يعتبر إلا أن يكون فاحشا كمن يصفع ويسخر منه أو يخرج سكران ويلعب به الصبيان ; لأنه من أمور الآخرة فلا يبتنى عليه أحكام الدنيا ، ولأن الأمير النسيب كفء للدنية ، إن كان لا يبالي بما يقولون فيه ولا يلحقها به شين ، بخلاف الفاحش لأنه يلحقها به شين . وعن أبي يوسف إذا كان الفاسق ذا مروءة فهو كفء ، وهو أن يكون متسترا لأنه لا يظهر فلا يلتحق بها الشين .

قال : ( وفي الصنائع ) ; لأن الناس يعيرون بالدنيء منها . وعن أبي حنيفة أنه غير معتبر فإنه يمكن الانتقال عنها فليست وصفا لازما . وعن أبي يوسف لا يعتبر إلا أن يفحش كالحائك والحجام والكناس والدباغ فإنه لا يكون كفؤا لبنت البزاز والعطار والصيرفي والجوهري .

قال : ( وفي الحرية ) فلا يكون العبد كفؤا للحرة ; لأنها تعير به فإنه نقص وشين .

قال : ( وفي المال ) وهو ملك المهر المعجل والنفقة في ظاهر الرواية حتى لو وجد أحدهما دون الآخر لا يكون كفؤا ; لأن بالنفقة تقوم مصالح النكاح ويدوم الازدواج فلا بد منه ، والمهر بدل البضع فلا بد من إيفائه ; والمراد به ما تعارف الناس تعجيله حتى يسمونه نقدا والباقي بعده تعارفوه مؤجلا . وعن أبي يوسف إن كان يملك المهر دون النفقة ليس بكفء ، وإن كان يملك النفقة دون المهر فهو كفء لأن المهر تجري فيه المساهلة ، ويعد الرجل قادرا عليه بقدرة أبيه . أما النفقة لا بد منها في كل وقت ويوم .

وفي النوادر عن أبي حنيفة ومحمد : امرأة فائقة في اليسار زوجت نفسها ممن يقدر على المهر والنفقة رد عقدها . وقال أبو يوسف : إذا كان قادرا على إيفاء ما يعجل ويكتسب ما ينفق [ ص: 134 ] عليها يوما بيوم كان كفؤا لها ، ولا اعتبار بما زاد على ذلك لأن المال غاد ورائح .

قال : ( ومن له أب في الإسلام أو الحرية لا يكافئ من له أبوان ) لأن النسب بالأب وتمامه بالجد ( والأبوان والأكثر سواء ) لما بينا . وعند أبي يوسف الواحد والأكثر سواء ، وقد سبق في الدعوى ، ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام لأن التفاخر بالإسلام ، والكفاءة في العقل قيل لا تعتبر وقيل تعتبر ، فلا يكون المجنون كفؤا للعاقلة .

قال : ( وإذا تزوجت غير كفء فللولي أن يفرق بينهما ) دفعا للعار عنه ، والتفريق إلى القاضي كما تقدم في خيار البلوغ ، وما لم يفرق فأحكام النكاح ثابتة ، ولا يكون الفسخ طلاقا لأن الطلاق تصرف في النكاح وهذا فسخ لأصل النكاح ، ولأن الفسخ إنما يكون طلاقا إذا فعله القاضي نيابة عن الزوج وهذا ليس كذلك ، ولهذا لا يجب لها شيء من المهر إن كان قبل الدخول لما بينا ، وإن دخل بها فلها المسمى وعليها العدة ولها نفقة العدة للدخول في عقد صحيح .

قال : ( فإن قبض الولي المهر أو جهز به أو طالب بالنفقة فقد رضي ) ; لأن ذلك تقرير للنكاح وأنه رضي كما إذا زوجها فمكنت الزوج من نفسها .

( وإن سكت لا يكون رضى ) وإن طالت المدة ما لم تلد ; لأن السكوت عن الحق المتأكد لا يبطله لاحتمال تأخره إلى وقت يختار فيه الخصومة .

( وإن رضي أحد الأولياء فليس لغيره ممن هو في درجته أو أسفل منه الاعتراض وإن كان أقرب منه فله ذلك ) ، وقال أبو يوسف : للباقين حق الاعتراض لأنه حق ثبت لجماعتهم فإذا رضي أحدهم فقد أسقط حقه وبقي حق الباقين . ولنا أن هذا فيما يتجزأ وهذا لا يتجزأ وهو دفع العار فجعل كل واحد منهما كالمنفرد كما مر ، وهذا لأنه صح الإسقاط في حقه فيسقط في حق غيره ضرورة عدم التجزي كالعفو عن القصاص وصار كالأمان ، بخلاف ما إذا رضيت ; لأن حقها غير حقهم ، لأن حقها صيانة نفسها عن ذل الاستفراش ، وحقهم في دفع العار ، فسقوط أحدهما لا يقتضي سقوط الآخر . وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا تزوجت بغير كفء لم يجز . قال شمس الأئمة السرخسي : وهو أحوط فليس كل ولي يحسن المرافعة إلى القاضي ، ولا كل قاض يعدل ، فكان الأحوط سد هذا الباب .

[ ص: 135 ] ولو انتسب إلى غير نسبه فتزوجته إن كان النسب المكتوم أفضل لا خيار لها ولا للأولياء كما إذا اشتراه على أنه معيب فإذا هو سليم ، وإن كان دونه فلها ولهم الخيار ، وإن رضيت فلهم الخيار لما تقدم ، وإن كان دونه إلا أنه كفء بالنسب المكتوم فلا خيار للأولياء لأنه كفء لهم فلا عار عليهم ولها الخيار لأنه شرط لها زيادة منفعة ، وقد فاتت فيثبت الخيار كما إذا اشترى عبدا على أنه خباز أو كاتب فوجده لا يحسنه ، وهذا لأن الاستفراش ذل في جانبها ، وهي إنما رضيت باستفراش من هو أفضل منها ، وإن كانت هي التي غرته فلا خيار له لأنه لا يفوته شيء من المصالح ، والكفاءة ليست بشرط من جانبها ، هو قادر على الطلاق وصار كالجب والعنة والرتق . وعن أبي بكر الرازي وأبي الحسن الكرخي أنه لا تعتبر الكفاءة ، وهو مذهب مالك لقوله - تعالى - : ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) إلى أن قال : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى " ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لأبي هريرة : " لو كان لي بنت لزوجتك " ، وروي أن بلالا خطب امرأة من الأنصار فأبوا أن يزوجوه ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : " قل لهم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمركم أن تزوجوني " ، وجوابه ما تقدم ، ولأن المراد بالآية حكم الآخرة لا الدنيا ; لأن التقوى لا يعلم حقيقتها إلا الله وثوابها في الآخرة وكذا قوله - عليه الصلاة والسلام - المراد به الفضل عند الله - تعالى - وهو جواب الحديث ، ويجب الحمل عليه توفيقا بين الأدلة .

قال : ( وإن نقصت من مهر مثلها فللأولياء أن يفرقوا أو يتممه ) ولا إشكال في ذلك على قولهما ; لأنه يجوز نكاح المرأة بغير إذن وليها أما على قول محمد فلا إشكال أيضا على رواية رجوعه إلى قول أبي حنيفة ، وعلى قول الأول فيه إشكال لأنه لا يصح نكاحها عنده إلا بإذن [ ص: 136 ] الولي . قالوا : صورته إذا أكره الولي المرأة على النكاح بدون مهر المثل ثم زال الإكراه فأجازت النكاح فللأولياء الاعتراض عند أبي حنيفة خلافا لهما على ما تقدم .




الخدمات العلمية