الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ( 66 ) مستكبرين به سامرا تهجرون ( 67 ) )

يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش : لا تضجوا اليوم وقد نزل بكم سخط الله وعذابه ، بما كسبت أيديكم واستوجبتموه بكفركم بآيات ربكم . ( قد كانت آياتي تتلى عليكم ) يعني : آيات كتاب الله ، يقول : كانت آيات كتابي تقرأ عليكم [ ص: 52 ] فتكذبون بها وترجعون مولين عنها إذا سمعتموها ، كراهية منكم لسماعها . وكذلك يقال لكل من رجع من حيث جاء : نكص فلان على عقبه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( فكنتم على أعقابكم تنكصون ) قال : تستأخرون .

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فكنتم على أعقابكم تنكصون ) يقول : تدبرون .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ) يعني أهل مكة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن . قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( تنكصون ) قال : تستأخرون .

وقوله : ( مستكبرين به ) يقول : مستكبرين بحرم الله ، يقولون : لا يظهر علينا فيه أحد ، لأنا أهل الحرم .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مستكبرين به ) يقول : مستكبرين بحرم البيت أنه لا يظهر علينا فيه أحد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( مستكبرين به ) قال : بمكة البلد .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن : ( مستكبرين به ) [ ص: 53 ] قال : مستكبرين بحرمي .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( مستكبرين به ) بالحرم .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( مستكبرين به ) قال : مستكبرين بالحرم .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( مستكبرين به ) قال : بالحرم .

وقوله : ( سامرا ) يقول : تسمرون بالليل . ووحد قوله : ( سامرا ) وهو بمعنى السمار ; لأنه وضع موضع الوقت . ومعنى الكلام : وتهجرون ليلا فوضع السامر موضع الليل ، فوحد لذلك . وقد كان بعض البصريين يقول : وحد ومعناه الجمع ، كما قيل : طفل في موضع أطفال . ومما يبين عن صحة ما قلنا في أنه وضع موضع الوقت فوحد لذلك ، قول الشاعر .


من دونهم إن جئتهم سمرا عزف القيان ومجلس غمر



فقال : سمرا ; لأن معناه : إن جئتهم ليلا وهم يسمرون ، وكذلك قوله : ( سامرا ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( سامرا ) يقول : يسمرون حول البيت .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( سامرا ) قال : مجلسا بالليل .

[ ص: 54 ] حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( سامرا ) قال : مجالس .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير : ( سامرا ) قال : تسمرون بالليل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( سامرا ) قال : كانوا يسمرون ليلتهم ويلعبون : يتكلمون بالشعر والكهانة وبما لا يدرون .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( سامرا ) قال : يعني سمر الليل .

وقال بعضهم في ذلك ما حدثنا به ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( سامرا ) يقول : سامرا من أهل الحرم آمنا لا يخاف ، كانوا يقولون : نحن أهل الحرم ، لا يخافون .

حدثنا الحسن ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( سامرا ) يقول : سامرا من أهل مكة آمنا لا يخاف ، قال : كانوا يقولون : نحن أهل الحرم لا نخاف .

وقوله : ( تهجرون ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قراء الأمصار : ( تهجرون ) بفتح التاء وضم الجيم . ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان من المعنى : أحدهما أن يكون عنى أنه وصفهم بالإعراض عن القرآن أو البيت ، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضه . والآخر : أن يكون عنى أنهم يقولون شيئا من القول كما يهجر الرجل في منامه ، وذلك إذا هذى ; فكأنه وصفهم بأنهم يقولون في القرآن ما لا معنى له من القول ، وذلك أن يقولوا فيه باطلا من القول الذي لا يضره . وقد جاء بكلا القولين التأويل من أهل التأويل .

ذكر من قال : كانوا يعرضون عن ذكر الله والحق ويهجرونه :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( تهجرون ) قال : يهجرون ذكر الله والحق .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، عن السدي ، عن أبي صالح ، في قوله : ( سامرا تهجرون ) قال : السب .

ذكر من قال : كانوا يقولون الباطل والسيئ من القول في القرآن .

[ ص: 55 ] حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير : ( تهجرون ) قال : يهجرون في الباطل .

قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير : ( سامرا تهجرون ) قال : يسمرون بالليل يخوضون في الباطل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تهجرون ) قال : بالقول السيئ في القرآن .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( تهجرون ) قال : الهذيان ; الذي يتكلم بما لا يريد ، ولا يعقل كالمريض الذي يتكلم بما لا يدري . قال : كان أبي يقرؤها : ( سامرا تهجرون ) . وقرأ ذلك آخرون : ( سامرا تهجرون ) بضم التاء وكسر الجيم . وممن قرأ ذلك كذلك من قراء الأمصار : نافع بن أبي نعيم ، بمعنى : يفحشون في المنطق ، ويقولون الخنا ، من قولهم : أهجر الرجل : إذا أفحش في القول . وذكر أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( تهجرون ) قال : تقولون هجرا .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، عن أبي نهيك ، عن عكرمة ، أنه قرأ : ( سامرا تهجرون ) : أي تسبون .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عون ، عن الحسن ، في قوله : ( سامرا تهجرون ) رسولي .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : ( تهجرون ) رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( تهجرون ) يقول : يقولون سوءا .

[ ص: 56 ] حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : ( تهجرون ) كتاب الله ورسوله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( تهجرون ) يقول : يقولون المنكر والخنا من القول ، كذلك هجر القول .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا القراءة التي عليها قراء الأمصار ، وهي فتح التاء وضم الجيم ، لإجماع الحجة من القراء .

التالي السابق


الخدمات العلمية