الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر ما جرى في سني الهجرة

ذكر ما جرى في السنة الأولى من الهجرة

قال مؤلف الكتاب: هي سنة أربع عشرة من البعثة ، وهي سنة أربع وثلاثين من ملك كسرى أبرويز ، وسنة تسع لهرقل .

وأول هذه السنة المحرم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما في المحرم بمكة لم يخرج منها ، وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالخروج إلى المدينة ، فخرجوا أرسالا في المحرم وقد كان جماعة خرجوا في ذي الحجة وصدروا المشركين يحتسبون بالاهتمام بأمره والتحيل له ، فاجتمعوا في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه .

قال ابن إسحاق : فحدثني ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة يتشاورون فيها في أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، [ ص: 46 ] فوقف على باب الدار ، فلما رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون ، وعسى أن لا يعدمكم منه رأي ونصح . قالوا: ادخل .

فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة ، من بني عبد شمس: عتبة ، وشيبة [ابنا ربيعة] . ومن بني أمية : أبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : [ طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل ] . ومن بني عبد الدار وقصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل بن هشام [ومن بني سهم ] نبيه ومنبه ابنا الحجاج . ومن بني جمح : أمية بن خلف . ومن كان معهم ، ومن غيرهم ممن لا يعد من قريش .

فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد كان ، وإنا والله لا نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه [من غيرنا] فأجمعوا فيه رأيا .

فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه بابا ، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله: كزهير ، والنابغة ، من الموت .

فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه ، فوثبوا [عليكم] فانتزعوه من بين أيديكم . [ ص: 47 ]

فقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا ، فننفيه من بلدنا .

فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حسن حديثه ، وحلاوة منطقه ، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل بحي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم .

فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه .

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فيكم ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد ، فيقتلونه ، فنستريح ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، ورضوا منا بالعقل فعقلناه لهم .

فقال الشيخ النجدي : القول ما قال هذا الرجل ، هذا الرأي لا أرى لكم غيره .

فتفرق القوم على ذلك وهم مجتمعون له ، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه . فلما كانت العتمة ، اجتمعوا على بابه ثم ترصدوه متى ينام فيثبون عليه: فلما رأى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "نم على فراشي وتسج ببردي الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم" ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام . أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أبو بكر بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا [ ص: 48 ] معمر قال: أخبرني عثمان الجزري : أن مقسما مولى ابن عباس أخبره ، عن ابن عباس : في قوله تعالى: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك .

قال: تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقال بعضهم: بل اقتلوه] وقال بعضهم: بل أخرجوه ، فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، فبات المشركون يحرسون عليا ، يحسبونه النبي عليه السلام ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا رد الله مكرهم ، فقالوا: أين صاحبك ؟ قال: لا أدري . فاقتصوا أثره .
وقال محمد بن كعب القرظي : اجتمعوا على بابه ، فقالوا: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم ، ثم بعثتم بعد موتكم ، فجعل لكم جنان كجنان الأرض ، فإن لم تفعلوا ذلك كان لكم [فيه] ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم ، فجعلت لكم نار تحرقون فيها .

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب ، ثم قال: "نعم أنا أقول ذلك" فنثر التراب على رءوسهم ، ولم يروا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يقرأ: يس إلى قوله: [ ص: 49 ] وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . ثم انصرف إلى حيث أراد ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم ، فقال: ما تنتظرون ها هنا؟

قالوا: محمدا . قال: قد والله خرج عليكم محمد ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، وانطلق لحاجته . فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، فإذا عليه تراب ، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا [رضي الله عنه] على الفراش متسجيا ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقولون: إن هذا لمحمد نائم عليه برده . فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا ، فقام علي عن الفراش ، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا . وروى الواقدي عن أشياخه: أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من المشركين: أبو جهل ، والحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وابن العيطلة ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج .

فلما أصبحوا قام علي رضي الله عنه عن الفراش ، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا علم لي به . وحكى جرير أنهم ضربوا عليا وحبسوه ساعة ، ثم تركوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية