الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[آيات دالة على أن كمال الإيمان بالصلاة ، وسائر الطاعات : ]

قال أبو عبد الله : ووصف الله - عز وجل - المؤمنين بالأعمال ، ثم ألزمهم حقيقة الإيمان ، ووصفهم بها بعد قيامهم بالأعمال ، من الصلاة والزكاة وغيرهما ، فقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) ، ثم قال : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) ، فوصفهم بحقيقة الإيمان ، بعد قيامهم بالأعمال التي [ ص: 357 ] ذكرها .

فليس لأحد أن يعارض خبر الله بالرد ، ويقلب وصفه ويبدله ، فيقول : إن المؤمنين الذين إذا ذكر الله لم تجل قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته لم تزدهم إيمانا ، ولا يتكلون على ربهم ، ولا يقيمون الصلاة ، ولا يؤتون الزكاة ، أولئك هم المؤمنون حقا ، فيبدل وصف الله ، ويقلب حكمه ، فثبتت أول الآية ، وثبتت آخرها بالحقيقة لمن آمن بالله ، ويلقي ما بين أولها وآخرها من العمل ، فيسمي المؤمن مؤمنا حقا ، بإلغاء ما بين أول الآية ، وآخرها من العمل ، فيكون قد عارض حكم الله بالرد ، ولو كان كل مؤمن مؤمنا حقا ؛ لما كان لقول الله : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) ، بعد الأعمال التي وصفهم بها معنى ، إذ كان من عمل تلك الأعمال ومن لم يعملها مؤمنا حقا ، ألا ترى ؟ أنه لا يجوز أن يقال : هذا إنسان حقا ، لأنه لا يكون إنسان باطلا ، ويجوز أن يقال : هذا إنسان حقا ، ليميز بينه وبين الإنسان الباطل ، الذي ليس بإنسان حقا ، وكذلك لا يجوز أن يقال : مؤمن حقا ، لو كان ليس للإيمان خصوص وعموم ، كما أن ليس للإنسان خصوص وعموم ، كما يقول القائل : فلان رجل حقا ، لا يريد أنه ذكر حقا ، ليس بأنثى ، لأنه لا جائز أن يكون ذكرا باطلا ، ولكنه يريد بقوله : رجلا حقا : أي كاملا في قوته وبصره ، وحسن تدبيره ، فجاز ذلك على هذا المعنى ، فكذلك قوله : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) ، إبانة عن استكمال [ ص: 358 ] الإيمان ، وفي ذلك دلالة على أن من المؤمنين من ليس بمؤمن حقا ، من طريق الكمال ، إلا أنه لا يكون مؤمنا باطلا ، إذ لم يكن مؤمنا حقا ؛ لأنه لا يجوز أن يكون مؤمنا باطلا ، فلما لم يجز أن يكون مؤمنا باطلا ، ثبت أن قول الله - عز وجل - : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) خصوصية ، خص هؤلاء بها دون سائر المؤمنين ، كما يقول القائل : هذا رجل عربي ، لأن من الرجال من ليس بعربي ، ولو كان كل رجل عربيا ، ولا يكون رجل غير عربي ، لكان قول القائل : هذا رجل عربي ؛ لا معنى له ، وذلك كما يقول القائل : هذا رجل بصير ، لأن في الناس من ليس ببصير ، ولو كانوا كلهم بصراء ، ما كان لقولك : هذا رجل بصير معنى .

ولكان قولك كقول القائل : هذا إنسان آدمي بشري ، ولا معنى لهذا التكرار ، إلا العي ، ولو قلت : هذا إنسان قوي ، لجاز في اللغة والمعقول ، إذ كان في الناس من هو ضعيف ، ليس بالقوي ، ولولا أن في المؤمنين من ليس بمؤمن كامل ، من قبل الحقيقة والكمال ، لما قال الله : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) ، يمدحهم بذلك ، دون غيرهم من المؤمنين ، إلا ولا جائز أن يكون مؤمنا باطلا ، ولو جاز أن يكون مؤمنا من باطل ، لجاز أن يقال : مؤمنا حقا ، يريد أنه مقر ليعلم عباده ، أنه ليس كمن آمن باطلا ، فإذا لم يجز أن يكون مؤمنا باطلا ، لم يكن لقوله : [ ص: 359 ] " حقا " معنى ، إلا حقيقة الكمال والتمام ، لأنه قد يكون مؤمن ، مقصر عن الحقيقة ، وآخر قد بلغ الحقيقة ، فلذلك قال : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) ، ولو لم يكن ذلك ، كذلك لم يكن لخصوصية الرب قوما ، وصفهم بالحقيقة ، دون غيرهم معنى يصح ، وهذا لا يجوز أن يوصف به بعض أهل العقل ، والبصر باللغة من المسلمين ، فكيف بالله - تبارك وتعالى - ؟ ومما يدل ويحقق ما ذكرنا ، أن من الرجال من قد يجوز أن يسمى بالإيمان ، ويوصف به ، ولما لم يبلغ حقيقته استكماله ، الخبر المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي :

التالي السابق


الخدمات العلمية