الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        البحث الثالث

                        في عصمة الأنبياء

                        ذهب الأكثر من أهل العلم إلى عصمة الأنبياء بعد النبوة من الكبائر ، وقد حكى القاضي أبو بكر إجماع المسلمين على ذلك ، وكذا حكاه ابن الحاجب وغيره من متأخري الأصوليين ، وكذا حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم كرذائل الأخلاق ، والدناءات ، وسائر ما ينفر عنهم ، وهي التي يقال لها صغائر الخسة ، كسرقة لقمة والتطفيف بحبة .

                        وإنما اختلفوا في الدليل الدال على عصمتهم مما ذكر ، هل هو الشرع أو العقل ؟

                        فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية : إن الدليل على ذلك الشرع والعقل ; لأنها منفرة عن الاتباع فيستحيل وقوعها منهم عقلا وشرعا ، ونقله إمام الحرمين في البرهان عن طبقات الخلق ، قال : وإليه مصير جماهير أئمتنا .

                        وقال ابن فورك إن ذلك ممتنع من مقتضى المعجزة .

                        قال القاضي عياض : وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق ومن تبعه وقال القاضي أبو بكر وجماعة من محققي الشافعية والحنفية : إن الدليل على امتناعها السمع فقط .

                        وروي عن القاضي أبي بكر أنه قال : الدليل على امتناعها الإجماع وروي عنه أنه قال : إنها ممتنعة سمعا ، والإجماع دل عليه ، قال : ولو رددنا ذلك إلى العقل فليس فيه ما يحيلها ، واختار هذا إمام الحرمين ، والغزالي [ ص: 135 ] وإلكيا وابن برهان .

                        قال الهندي : هذا الخلاف فيما إذا لم يسنده إلى المعجزة في التحدي فإن أسنده إليها كان امتناعه عقلا .

                        وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية ; لدلالة المعجزة على صدقهم ، وأما الكذب غلطا فمنعه الجمهور ، وجوزه القاضي أبو بكر .

                        واستدل الجمهور : بأن المعجزة تدل على امتناعه ، واستدل القاضي : بأن المعجزة إنما تدل على امتناعه عمدا لا خطأ ، وقول الجمهور أولى .

                        وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب ، ولا كانت من الدناءات ، فاختلفوا هل تجوز عليهم ، وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا ؟ فنقل إمام الحرمين وإلكيا عن الأكثرين الجواز عقلا ، وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب ونقل إمام الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين أيضا عدم الوقوع .

                        قال إمام الحرمين : الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا أو إثباتا ، والظواهر مشعرة بالوقوع .

                        ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف ، منهم أبو جعفر الطبري وجماعة من الفقهاء والمحدثين ، قالوا : ولا بد من تنبيههم عليه إما في الحال [ ص: 136 ] على رأي جمهور المتكلمين ، أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم .

                        ونقل ابن حزم في الملل والنحل عن أبي إسحاق الإسفراييني وابن فورك أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر جميعا ، وقال : إنه الذي ندين الله به ، واختاره ابن برهان وحكاه النووي في زوائد الروضة عن المحققين .

                        قال القاضي حسين : وهو الصحيح من مذهب أصحابنا - يعني الشافعية - وما ورد من ذلك فيحمل على ترك الأولى .

                        قال القاضي عياض : يحمل على ما قبل النبوة أو على أنهم فعلوه بتأويل . واختار الرازي العصمة عمدا وجوزها سهوا .

                        واختلفوا في معنى العصمة فقيل : هو أن لا يمكن المعصوم من الإتيان بالمعصية ، وقيل : هو أن يختص في نفسه أو بدنه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه عليها ، وقيل : إنها القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية . وقيل : إن الله منعهم منها بألطافه بهم فصرف دواعيهم عنها . وقيل : إنها تهيئة العبد للموافقة مطلقا وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل طاعة .

                        فإن قلت : فما تقول فيما ورد في القرآن الكريم منسوبا إلى جماعة من الأنبياء ، [ ص: 137 ] وأولهم أبونا آدم عليه السلام ، فإن الله يقول : وعصى آدم ربه فغوى .

                        قلت : قد قدمنا وقوع الإجماع على امتناع الكبائر منهم بعد النبوة ، فلا بد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من الوجوه ، وهكذا يحمل ما وقع من إبراهيم عليه السلام من قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم ، وقوله في سارة : إنها أخته ، على ما يخرجه عن محض الكذب لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد النبوة ، وهكذا في قوله سبحانه وتعالى في يونس عليه السلام : إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه لا بد من تأويله بما يخرجه عن ظاهره ، وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف وهكذا يحمل ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يستغفر الله في كل يوم وأنه كان يتوب إليه في كل يوم ، على أن المراد رجوعه من حالة إلى أرفع منها .

                        وأما النسيان فلا يمتنع وقوعه من الأنبياء ، قيل إجماعا ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني . قال قوم : ولا يقرون عليه بل ينبهون .

                        قال الآمدي ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان .

                        [ ص: 138 ] قال الزركشي في البحر : وأما الإمام الرازي في بعض كتبه فادعى الإجماع على الامتناع ، وحكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية ، وخص الخلاف بالأفعال ، وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز ، وتأول المانعون الأحاديث الواردة في سهوه صلى الله عليه وسلم على أنه تعمد ذلك ، وهذا التأويل باطل بعد قوله : أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وقد اشترط جمهور المجوزين للسهو والنسيان اتصال التنبيه بالواقعة .

                        وقال إمام الحرمين : يجوز التأخير .

                        وأما قبل الرسالة : فذهب الجمهور إلى أنه لا يمتنع من الأنبياء ذنب كبير ولا صغير ، وقالت الروافض : يمتنع قبل الرسالة منهم كل ذنب .

                        وقالت المعتزلة : يمتنع الكبائر دون الصغائر .

                        واستدل المانعون مطلقا أو مقيدا بالكبائر بأن وقوع الذنب منهم قبل النبوة منفر عنهم عن أن يرسلهم الله ، فيخل بالحكمة من بعثهم .

                        وذلك قبيح عقلا ، ويجاب عنه : بأنا لا نسلم ذلك والكلام على هذه المسألة مبسوط في كتب الكلام .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية