الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب اختلاف الفقهاء في حكم الساحر وقول السلف فيه حدثنا عبد الباقي ، حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال : حدثنا عبد الرحمن بن رجاء قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة عن عبد الله قال : " من أتى كاهنا أو عرافا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد عليه السلام " .

وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر : أن جارية لحفصة سحرتها فوجدوا سحرها واعترفت بذلك ، فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها ، فبلغ ذلك عثمان فأنكره ، فأتاه ابن عمر فأخبره أمرها ؛ وكان عثمان إنما أنكر ذلك ؛ لأنها قتلت بغير إذنه وذكر ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، أنه سمع بجالة يقول : كنت كاتبا لجزي بن معاوية فأتى كتاب عمر أن : اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر .

وروى أبو عاصم عن الأشعث عن الحسن قال : " يقتل الساحر ولا يستتاب " وروى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب : " أن عمر بن الخطاب أخذ ساحرا فدفنه إلى صدره ثم تركه حتى مات " .

وروى سفيان عن عمرو عن سالم بن أبي الجعد قال : كان قيس بن سعد أميرا على مصر فجعل يفشو سره ، فقال : من هذا الذي يفشي سري ؟ فقالوا : ساحر ههنا فدعاه ، فقال له : إذا نشرت الكتاب علمنا ما فيه ، فأما ما دام مختوما فليس نعلمه ؛ فأمر به فقتل وروى أبو إسحاق الشيباني عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال : قال علي بن أبي طالب عليه السلام : " إن هؤلاء العرافين كهان العجم ، فمن أتى كاهنا يؤمن له بما يقول فهو بريء مما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام " .

وروى مبارك عن الحسن أن جندبا قتل ساحرا وروى يونس عن الزهري قال : " يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر أهل الكتاب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له ابن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما " . وعن عمر بن عبد العزيز قال : " يقتل الساحر " .

قال أبو بكر : اتفق هؤلاء السلف على وجوب قتل الساحر ، ونص بعضهم على كفره واختلف فقهاء الأمصار في حكمه على ما نذكره ؛ فروى ابن شجاع عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال في الساحر : " يقتل إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله : إني أترك السحر وأتوب منه ، [ ص: 62 ] فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه ، وإن شهد عليه شاهدان أنه ساحر فوصفوا ذلك بصفة يعلم أنه سحر قتل ولا يستتاب .

وإن أقر فقال : كنت أسحر وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل ، وكذلك لو شهد عليه أنه كان مرة ساحرا وأنه ترك منذ زمان لم يقتل إلا أن يشهدوا أنه الساعة ساحر وأقر بذلك فيقتل ، وكذلك العبد المسلم والذمي والحر الذمي من أقر منهم أنه ساحر فقد حل دمه فيقتل ولا يقبل توبته ، وكذلك لو شهد على عبد أو ذمي أنه ساحر ووصفوا ذلك بصفة يعلم أنه سحر لم تقبل توبته ويقتل ، وإن أقر العبد أو الذمي أنه كان ساحرا وترك ذلك منذ زمان قبل ذلك ، وكذلك لو شهدوا عليه أنه كان مرة ساحرا ولم يشهدوا أنه الساعة ساحر لم يقتل ، وأما المرأة فإذا شهدوا عليها أنها ساحرة أو أقرت بذلك لم تقتل وحبست وضربت حتى يستيقن لهم تركها للسحر ، وكذلك الأمة والذمية إذا شهدوا أنها ساحرة أو أقرت بذلك لم تقتل وحبست حتى يعلم منها ترك ذلك كله " وهذا كله قول أبي حنيفة قال ابن شجاع : فحكم في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة ؛ إلا أن يجيء فيقر بالسحر أو يشهد عليه بذلك أنه عمله ، فإنه جعل ذلك بمنزلة الثبات على الردة وحكى محمد بن شجاع عن أبي علي الرازي قال : سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر " يقتل ولا يستتاب " لم لم يكن ذلك بمنزلة المرتد ؟ فقال : الساحر قد جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد .

والساعي بالفساد إذا قتل قتل . قال : فقلت لأبي يوسف : ما الساحر ؟ قال : الذي يقتص له من العمل مثل ما فعلت اليهود بالنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاءت به الأخبار إذا أصاب به قتلا ، فإذا لم يصب به قتلا لم يقتل ؛ لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقتله ؛ إذ كان لم يصب به قتلا قال أبو بكر : ليس فيما ذكر بيان معنى السحر الذي يستحق فاعله القتل ، ولا يجوز أن يظن بأبي يوسف أنه اعتقد في السحر ما يعتقده الحشو من إيصالهم الضرر إلى المسحور من غير مماسة ولا سقي دواء ؛ وجائز أن يكون سحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم على جهة إرادتهم التوصل إلى قتله بإطعامه ، وأطلعه الله على ما أرادوا ، كما سمته زينب اليهودية في الشاة المسمومة فأخبرته الشاة بذلك ، فقال : إن هذه الشاة لتخبرني أنها مسمومة . قال أبو مصعب عن مالك في المسلم إذا تولى عمل السحر قتل ولا يستتاب ؛ لأن المسلم إذا ارتد باطنا لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام قال إسماعيل بن إسحاق : فأما ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك ، إلا أن يضر المسلمين فيقتل [ ص: 63 ] لنقض العهد وقال الشافعي : إذا قال الساحر : أنا أعمل عملا لأقتل فأخطئ وأصيب وقد مات هذا الرجل من عملي ؛ ففيه الدية وإن قال : عملي يقتل المعمول به وقد تعمدت قتله ؛ قتل به قودا ، وإن قال : مرض منه ولم يمت أقسم أولياؤه لمات منه ثم تكون الدية .

قال أبو بكر : فلم يجعل الشافعي الساحر كافرا بسحره وإنما جعله جانيا كسائر الجناة وما قدمنا من قول السلف يوجب أن يكون مستحقا للقتل باستحقاق سمة السحر ، فدل ذلك على أنهم رأوه كافرا ، وقول الشافعي في ذلك خارج عن قول جميعهم ؛ يعتبر أحد منهم قتله لغيره بعمله السحر في إيجاب قتله

قال أبو بكر : وقد بينا فيما سلف معاني السحر وضروبه ؛ وأما الضرب الأول الذي ذكرنا من سحر أهل بابل في القديم ومذاهب الصابئين فيه ، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله : وما أنزل على الملكين فيما يرى والله أعلم ، فإن القائل به والمصدق به والعامل به كافر ؛ وهو الذي قال أصحابنا فيه عندي إنه لا يستتاب ، والدليل على أن المراد بالآية هذا الضرب من السحر ، ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا نطير قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن الأخنس قال : حدثنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر .

وهذا يدل على معنيين :

أحدهما : أن المراد بالآية هو السحر الذي نسبه عاملوه إلى النجوم ، وهو الذي ذكرناه من سحر أهل بابل والصابئين ؛ لأن سائر ضروب السحر الذي ذكرنا ليس لها تعلق بالنجوم عند أصحابها . والثاني : أن إطلاق لفظ السحر المذموم يتناول هذا الضرب منه ؛ وهذا يدل على أن المتعارف عند السلف من السحر هو هذا الضرب منه ومما يدعي فيه أصحابها المعجزات ، وإن لم يعلقوا ذلك بفعل النجوم دون غيرها من الوجوه التي ذكرنا ؛ وأنه هو المقصود بقتل فاعله ؛ إذ لم يفرقوا فيه بين عامل السحر بالأدوية والنميمة والسعاية والشعوذة وبين غيره ومعلوم عند الجميع أن هذه الضروب من السحر لا توجب قتل فاعلها إذا لم يدع فيه معجزة لا يمكن العباد فعلها ؛ فدل ذلك على أن إيجابهم قتل الساحر إنما كان لمن ادعى بسحره معجزات لا يجوز وجود مثلها إلا من الأنبياء عليهم السلام دلالة على صدقهم وذلك ينقسم إلى معنيين :

أحدهما : ما بدأنا بذكره من سحر أهل بابل ؛ والآخر : ما يدعيه المعزمون وأصحاب النيرنجيات من خدمة الشياطين لهم والفريقان جميعا كافران ؛ أما الفريق الأول فلأن في [ ص: 64 ] سحره تعظيم الكواكب واعتقادها آلهة ، وأما الفريق الثاني فلأنها وإن كانت معترفة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنها حيث أجازت أن تخبرها الجن بالغيوب وتقدر على تغيير فنون الحيوان والطيران في الهواء والمشي على الماء وما جرى مجرى ذلك فقد جوزت وجود مثل أعلام الأنبياء عليهم السلام مع الكذابين المتخرصين .

ومن كان كذلك فإنه لا يعلم صدق الأنبياء عليهم السلام لتجويزه كون مثل هذه الأعلام مع غيرهم ، فلا يأمن أن يكون جميع من ظهرت على يده متخرصا كذابا فإنما كفر هذه الطائفة من هذا الوجه ، وهو جهله بصدق الأنبياء عليهم السلام والأظهر من أمر الساحر الذي رأت الصحابة قتله من غير بحث منهم عن حاله ولا بيان لمعاني سحره أنه الساحر المذكور في قوله تعالى : يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين وهو الساحر الذي بدأنا بذكره عند ذكرنا ضروب السحر ، وهو سحر أهل بابل في القديم ، وعسى أن يكون هو الأغلب الأعم في ذلك الوقت ؛ ولا يبعد أن يكون في ذلك الوقت من يتعاطى سائر ضروب السحر الذي ذكرنا وكانوا يجرون في دعواهم الإخبار بالغيوب وتغيير صور الحيوان على منهاج سحرة بابل ، وكذلك كهان العرب ، يشمل الجميع اسم الكفر لظهور هذه الدعاوى منهم وتجويزهم مضاهاة الأنبياء في معجزاتهم وعلى أي وجه كان معنى السحر عند السلف فإنه لم يحك عن أحد إيجاب قتل الساحر من طريق الجناية على النفوس ، بل إيجاب قتله باعتقاده عمل السحر من غير اعتبار منهم لجنايته على غيره ، فأما ما يفعله المشعوذون وأصحاب الحركات والخفة بالأيدي ، وما يفعله من يتعاطى ذلك بسقي الأدوية المبلدة للعقل أو السموم القاتلة .

ومن يتعاطى ذلك بطريق السعي بالنمائم والوشاية والتضريب والإفساد ؛ فإنهم إذا اعترفوا بأن ذلك حيل ومخاريق ، حكم من يتعاطى مثلها من الناس لم يكن كافرا وينبغي أن يؤدب ويزجر عن ذلك والدليل على أن الساحر المذكور في الآية مستحق لاسم الكفر قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان أي على عهد سليمان ، روي ذلك عن المفسرين وقوله تتلو معناه تخبر وتقرأ ثم قوله تعالى وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يدل على أن ما أخبرت به الشياطين وادعته من السحر على سليمان كان كفرا ، فنفاه الله عن سليمان وحكم بكفر الشياطين الذين تعاطوه وعملوه ، ثم عطف على ذلك قوله تعالى : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت [ ص: 65 ] وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فأخبر عن الملكين أنهما يقولان لمن يعلمانه ذلك : لا تكفر بعمل هذا السحر واعتقاده فثبت أن ذلك كفر إذا عمل به واعتقد ثم قال : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق يعني ، والله أعلم : من استبدل السحر بدين الله ما له في الآخرة من خلاق ، يعني من نصيب ثم قال : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر ؛ لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر وهذا يدل على أن الساحر كافر .

وإذا ثبت كفره فإن كان مسلما قبل ذلك أو قد ظهر منه الإسلام في وقت كفره بفعل السحر فاستحق القتل بقوله عليه السلام : من بدل دينه فاقتلوه وإنما قال أبو حنيفة ولا نعلم أحدا من أصحابنا خالفه فيما ذكره الحسن عنه : " إنه يقتل ولا يستتاب " فأما ما روي عن أبي يوسف في فرق أبي حنيفة بين الساحر وبين المرتدين ، فإن الساحر قد جمع إلى كفره السعي بالفساد في الأرض فإن قال قائل : فأنت لا تقتل الخناق والمحاربين إلا إذا قتلوا ، فهلا قلت مثله في الساحر قيل له : يفترقان من جهة أن الخناق والمحارب لم يكفرا قبل القتل ولا بعده فلم يستحقا القتل ؛ إذ لم يتقدم منهما سبب يستحقان به القتل ، وأما الساحر فقد كفر بسحره قتل به أو لم يقتل ، فاستحق القتل بكفره ثم لما كان مع كفره ساعيا في الأرض بالفساد كان وجوب قتله حدا فلم يسقط بالتوبة كالمحارب إذا استحق القتل لم يسقط ذلك عنه بالتوبة ؛ فهو مشبه للمحارب الذي قتل في أن قتله حدا لا تزيله عنه التوبة ، ويفارق المرتد من جهة أن المرتد يستحق القتل بإقامته على الكفر فحسب فمتى انتقل عنه زال عنه الكفر والقتل .

ولما وصفنا من ذلك لم يفرقوا بين الساحر من أهل الذمة ومن المسلمين ، كما لا يختلف حكم المحارب من أهل الذمة والإسلام فيما يستحقونه بالمحاربة ؛ ولذلك لم تقتل المرأة الساحرة ؛ لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا وإنما تقتل قودا ووجه آخر لقول أبي حنيفة في ترك استتابة الساحر ، وهو ما ذكره الطحاوي قال : حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال : قال أبو حنيفة : " اقتلوا الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف " .

ولم يحك أبو يوسف خلافه ويصح بناء مسألة الساحر عليه ؛ لأن الساحر يكفر سرا فهو بمنزلة الزنديق فالواجب أن لا تقبل توبته .

فإن قيل : فعلى هذا ينبغي أن لا يقتل [ ص: 66 ] الساحر من أهل الذمة ؛ لأن كفره ظاهر وهو غير مستحق للقتل لأجل الكفر قيل له : الكفر الذي أقررناه عليه هو ما أظهره لنا ، وأما الكفر الذي صار إليه بسحره فإنه غير مقر عليه ولم نعطه الذمة على إقراره عليه ، ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر بالجزية لم نجبه إليه ولم نجز إقراره عليه ؟ ولا فرق بينه وبين الساحر من أهل الملة وأيضا ، فلو أن الذمي الساحر لم يستحق القتل بكفره لاستحقه بسعيه في الأرض بالفساد كالمحاربين على النحو الذي ذكرنا ، وقولهم في ترك قبول توبة الزنديق ، يوجب أن لا يستتاب الإسماعيلية وسائر الملحدين الذين قد علم منهم اعتقاد الكفر كسائر الزنادقة وأن يقتلوا مع إظهارهم التوبة ويدل على وجوب قتل الساحر ما حدثنا به ابن قانع : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا ابن الأصبهاني قال : حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حد الساحر ضربه بالسيف . وقصة جندب في قتله الساحر بالكوفة عند الوليد بن عقبة مشهورة وقوله عليه السلام : حد الساحر ضربه بالسيف قد دل على معنيين :

أحدهما : وجوب قتله ؛ والثاني : أنه حد لا يزيله التوبة كسائر الحدود إذا وجبت ، ولما ذكرنا من قتله على وجه قتل المحارب قالوا فيما حدثنا الحسن بن زياد : إنه إذا قال " كنت ساحرا وقد تبت " أنه لا يقتل ، كمن أقر أنه كان محاربا وجاء تائبا أنه لا يقتل ؛ لقوله تعالى في شأن المحاربين : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم فاستثنى التائب قبل القدرة عليه من جملة من أوجب عليه الحد المذكور في الآية ويستدل بظاهر قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا إلى آخر الآية ، على وجوب قتل الساحر حدا ؛ لأنه من أهل السعي في الأرض بالفساد لعمله السحر واستدعائه الناس إليه وإفساده إياهم مع ما صار إليه من الكفر ، وأما مالك بن أنس فإنه أجرى الساحر مجرى الزنديق ، فلم يقبل توبته كما لا يقبل توبة الزنديق ، ولم يقتل ساحر أهل الذمة ؛ لأنه غير مستحق للقتل بكفره وقد أقررناه عليه ، فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين فيكون ذلك عنده نقضا للعهد .

فيقتل كما يقتل الحربي وقد بينا موافقة الساحر الذمي للزنديق من قبل أنه استحدث كفرا سرا ، لا يجوز إقراره عليه بجزية ولا غيرها ، فلا فرق بينه وبين الساحر ممن ينتحل ملة الإسلام ؛ ومن جهة أخرى أنه في معنى المحارب فلا يختلف حكم أهل الذمة ومنتحلي الذمة ، وأما مذهب الشافعي فقد [ ص: 67 ] بينا خروجه عن أقاويل السلف ؛ لأن أحدا منهم لم يعتبر قتله بسحره وأوجبوا قتله على الإطلاق بحصول الاسم له ، وهو مع ذلك لا يخلو من أحد وجهين في ذكره قتل الساحر بغيره : إما أن يجيز على الساحر قتل غيره من غير مباشرة ولا اتصال سبب إليه على حسب ما يدعيه السحرة ، وذلك فظيع شنيع ولا يجيزه أحد من أهل العلم بالله ورسوله من فعل السحرة لما وصفنا من مضاهاته أعلام الأنبياء عليهم السلام أو أن يكون إنما أجاز ذلك من جهة سقي الأدوية ونحوها ، فإن كان هذا أراد فإن من احتال في إيصال دواء إلى إنسان حتى شربه فإنه لا يلزمه دية ؛ إذ كان هو الشارب له والجاني على نفسه ، كمن دفع إلى إنسان سيفا فقتل به نفسه ، وإن كان إنما أوجره إياه من غير اختيار لشربه ، فإن هذا لا يكاد يقع إلا في حال الإكراه والنوم ونحوه فإن كان أراد ذلك فإن هذا يستوي فيه الساحر وغيره ثم قوله : " إذا قال الساحر قد أخطئ وأصيب وقد مات هذا الرجل من عملي ففيه الدية " فإنه لا معنى له ؛ لأن رجلا لو جرح رجلا بحديدة قد يموت المجروح من مثله وقد لا يموت ، لكان عليه فيه القصاص ؛ فكان الواجب على قوله إيجاب القصاص كما يجب في الحديدة وقوله : " قد يموت وقد لا يموت " ليس بعلة في زوال القصاص لوجودها في الجارح بحديدة بعد أن يقر الساحر أنه قد مات من عمله .

فإن قيل فقد جعله بمنزلة شبه العمد والضرب بالعصا واللطمة التي قد تقتل وقد لا تقتل قيل له : ولم صار بالقتل بالعصا واللطمة أشبه منه بالحديدة ؟ .

فإن فرق بينهما من جهة أن هذا سلاح وذاك ليس بسلاح ، لزمه في كل ما ليس بسلاح أن لا يقتص منه ، ويلزمه حينئذ اعتبار السلاح دون غيره في إيجاب القود . وقول الشافعي : " وإن قال مرض منه ولم يمت أقسم أولياؤه لمات منه " مخالف في النظر لأحكام الجنايات ؛ لأن من جرح رجلا فلم يزل صاحب فراش حتى مات ، لزمه حكم جنايته وكان محكوما بحدوث الموت عند الجراحة ولا يحتاج إلى أيمان الأولياء في موته منها ، فكذلك يلزمه مثله في الساحر إذا أقر أن المسحور مرض من سحره .

فإن قيل : كذلك نقول في المريض من الجراحة إذا لم يزل صاحب فراش حتى مات أنهم إذا اختلفوا لم يحكم بالقتل حتى يقسم أولياء المجروح قيل له : فينبغي أن تقول مثله لو ضربه بالسيف ووالى بين الضرب حتى قتله من ساعته ، فقال الجارح : مات من علة كانت به قبل الضربة الثانية ، أو قال : اخترمه الله تعالى ولم يمت من ضربتي ؛ أن تقسم الأولياء وهذا لا يقوله أحد ؛ وكذلك ما وصفنا .

قال [ ص: 68 ] أبو بكر : قد تكلمنا في معنى السحر واختلاف الفقهاء بما فيه الكفاية في حكم الساحر ، ونتكلم الآن في معاني الآية ومقتضاها ، فنقول : إن قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان فقد روي فيه عن ابن عباس أن المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان بن داود عليهما السلام وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وروي مثله عن ابن جريج وابن إسحاق وقال الربيع بن أنس والسدي : " المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان " .

وقال بعضهم : " أراد الجميع ، من كان منهم في زمن سليمان ومن كان منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن متبعي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فوصف الله هؤلاء اليهود الذين لم يقبلوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهو يريد شياطين الجن والإنس " .

ومعنى تتلو : تخبر وتقرأ ، وقيل : تتبع ؛ لأن التالي تابع وقوله : على ملك سليمان قيل فيه : على عهده ، وقيل فيه : على ملكه ، وقيل فيه : تكذب عليه ؛ لأنه إذا كان الخبر كذبا قيل تلا عليه .

وإذا كان صدقا قيل : تلا عنه ، وإذا أبهم جاز فيه الأمران جميعا ؛ قال الله تعالى : أم تقولون على الله ما لا تعلمون وكانت اليهود تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أن ملكه كان به ، فبرأه الله تعالى من ذلك ؛ ذكر ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ، وقال محمد بن إسحاق : قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا ؟ والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله تعالى : وما كفر سليمان

وقيل : إن اليهود إنما أضافت السحر إلى سليمان توصلا منهم إلى قبول الناس ذلك منهم ولتجوزه عليهم ، وكذبوا عليه في ذلك وقيل : إن سليمان جمع كتب السحر ودفنها تحت كرسيه أو في خزانته لئلا يعمل به الناس ، فلما مات ظهر عليه ، فقالت الشياطين : بهذا كان يتم ملكه ؛ وشاع ذلك في اليهود وقبلته وأضافته إليه وجائز أن يكون المراد شياطين الإنس ، وجائز أن يكون الشياطين دفنوا السحر تحت كرسي سليمان في حياته من غير علمه ، فلما مات وظهر نسبوه إلى سليمان ، وجائز أن يكون الفاعلون لذلك شياطين الإنس استخرجوه بعد موته وأوهموا الناس أن سليمان كان فعل ذلك ليوهموهم ويخدعوهم به .

التالي السابق


الخدمات العلمية