الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم اختلفوا في مقدار النصاب فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى : عشرة دراهم أو دينار ، وقال الشافعي رحمه الله : ربع دينار ، وقال رحمه الله : ثلاثة دراهم ، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى خمسة دراهم ، وقال عكرمة رحمه الله تعالى أربعة دراهم وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أربعون درهما واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بحديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال القطع في ربع دينار فصاعدا } ، ولأنهم اتفقوا على أن القطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن واختلف في ثمن المجن ، وعند الاختلاف في القيمة يؤخذ بالأقل ، كما إذا اختلف المقومون في قيمة المسروق يؤخذ بالأقل في ذلك فأقل ما نقل فيه ثلاثة دراهم ، فلهذا قدر مالك رحمه الله تعالى النصاب به .

وقد كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما فثلاثة دراهم يكون ربع دينار وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يستدل بحديث عثمان رضي الله عنه لا تقطع الخمس إلا بخمسة يعني اليد التي عليها خمسة أصابع لا تقطع إلا بخمسة دراهم ، ومن اعتبر بأربعين استدل بحديث عائشة رضي الله عنها { كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه فكانت تقطع في ثمن المجن ، وهو كان يومئذ ذا ثمن } ، وهذا منها إشارة إلى أنه كان مالا خطيرا والخطير ما يكون مقدارا يعتبر لإيجاب الزكاة فيه وأدنى ذلك الأربعون في نصاب الشياه .

وعلماؤنا رحمهم الله استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم } وعن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا { لا تقطع اليد إلا في دينار أو في عشرة دراهم } وهكذا عن علي رضي الله عنه ، وفي الحديث المعروف { لا مهر أقل من عشرة ، ولا قطع في أقل من عشرة دراهم } ، وعن أيمن بن أبي أيمن وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم { أن المجن الذي قطعت اليد فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يساوي عشرة دراهم } والرجوع إلى قولهم أولى ; لأنهم من جلة الغزاة فكانوا أعرف بقيمة السلاح من غيرهم وليس هذا من جملة ما قال إن [ ص: 138 ] الأخذ بالأقل أولى ; لأن في قيمة المسروق إنما يؤخذ بالأقل لدرء الحد ، وذلك يوجب أن يؤخذ بالأكثر هاهنا ; لأن معنى درء الحد فيه ، وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه عنه أتي بسارق سرق ثوبا فأمر بقطع يده ، قال عثمان رضي الله تعالى عنه إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم فأمر بتقويمه فقوم بثمانية دراهم فدرأ الحد عنه فدل أنه كان ظاهرا معروفا فيما بينهم أن النصاب يتقدر بعشرة دراهم ويعتبر نصاب الحد بنصاب المهر ، وقد قامت الدلالة لنا على أن أدناه عشرة دراهم والمستحق بكل واحد منهما ماله خطر ، وهو مصون عن الابتذال فلا يستحق إلا بمال خطير والحديث الذي رواه عن عائشة رضي الله عنها اضطرب أهل الحديث فيه وأكثرهم على أنه غير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان القاسم بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى إذا سمع من يروي هذا الحديث مرفوعا رماه بالحجارة .

والدليل عليه ما اشتهر من قول عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع في الشيء التافه وكانت تقطع في ثمن المجن ، فلو كان عندها نص لما اشتغلت بهذا الجواب المبهم ثم يحتمل أنه كان التقدير بربع دينار في الابتداء ثم انتسخ ذلك بعشرة دراهم ليكون الناسخ أخف من المنسوخ قال الله جل وعلا { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } ثم في ظاهر الرواية المعتبر عشرة دراهم من النقرة المضروبة حتى روى ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا سرق نقرة لا تساوي عشرة دراهم مضروبة فلا قطع عليه ، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر عشرة دراهم من النقد الغالب بعد أن تكون الفضة فيها غالبة على الغش ، وأما ما يغلب عليه الغش فهو من الفلوس لا من الدراهم ، والأول أصح لما بينا أن شرط العقوبة يراعى وجوده بصفة الكمال ، فإذا كانت الدراهم مغشوشة فالغش ليس من الفضة في شيء ، ولو أوجبنا القطع عليه كان إيجاب القطع في موضع الشبهة وما يندرئ بالشبهات لا يستوفى مع الشبهة ، فلهذا اعتبرنا عشرة دراهم من النقرة المضروبة ثم المعتبر عشرة دراهم من وزن سبعة ، فإنه هو المعتبر في وزن الدراهم في غالب البلدان ، وقد بينا تفسير ذلك فيما أمليناه من شرح الإفرار

التالي السابق


الخدمات العلمية