الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب فيمن حرم به

                                                                      2061 حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك ادعوهم لآبائهم إلى قوله فإخوانكم في الدين ومواليكم فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس

                                                                      التالي السابق


                                                                      أي برضاعة الكبير .

                                                                      ( كان تبنى سالما ) : أي اتخذه ولدا . وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة ولم يكن مولاه وإنما كان يلازمه بل كان من حلفائه كما وقع في رواية لمسلم ( وأنكحه ) : أي زوجه ( هند بنت الوليد ) : بدل من ابنة أخيه . ووقع عند مالك فاطمة فلعل لها اسمين [ ص: 50 ] ( وهو ) : أي سالم ( مولى لامرأة من الأنصار ) : قال ابن حبان : يقال لها ليلى ويقال ثبيتة بضم الثاء وفتح الباء وسكون الياء بنت يعار بفتح التحتية ابن زيد بن عبيد وكانت امرأة أبي حذيفة بن عتبة ، وبهذا جزم ابن سعد . وقيل اسمها سلمى وقيل غير ذلك ( كما تبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا ) : هو أبو أسامة زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى القرشي نسبا الهاشمي ولاء مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبه وأبو حبه كان أمه خرجت به تزور قومها فأغارت عليهم بنو القين فأخذوا بزيد وقدموا به سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة فوهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين فأعتقه وتبناه . قال ابن عمر : ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى ادعوهم لآبائهم ولم يذكر الله تعالى في القرآن من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا زيدا بقوله فلما قضى زيد منها وطرا الآية ، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة ( ادعوهم ) : أي المتبنين ( لآبائهم ) : أي آبائهم الذين هم من مائهم لا لمن تبناه .

                                                                      وتمام الآية هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ( فردوا إلى آبائهم ) : ولم ينسبوا إلى من تبناه ولم يورثوا ميراثهم بل ميراث آبائهم ( كان مولى وأخا في الدين ) : لعل في هذا إشارة إلى قولهم مولى أبي حذيفة وأن سالما لما نزلت ادعوهم لآبائهم : كان مما لا يعلم له أب فقيل له مولى أبي حذيفة ( إنا كنا نرى ) : أي نعتقد ( فكان ) : أي سالم ( يأوي ) : أي يسكن . وعند مالك يدخل علي . قال في القاموس أويت منزلي وإليه أويا بالضم ويكسر وأويت تأوية وتأويت واتويت وائتويت نزلته [ ص: 51 ] بنفسي وسكنته ( ويراني فضلا ) : بضم الفاء وسكون الضاد أي متبذلة في ثياب المهنة ، يقال تفضلت المرأة إذا فعلت ذلك . هذا قول الخطابي وتبعه ابن الأثير وزاد : وكانت في ثوب واحد . وقال ابن عبد البر : قال الخليل رجل فضل متوشح في ثوب واحد يخالف بين طرفيه .

                                                                      قال فعلى هذا فمعنى الحديث أنه كان يدخل عليها وهي منكشف بعضها . وعن ابن وهب فضل مكشوفة الرأس والصدر . وقيل الفضل الذي عليه ثوب واحد ولا إزار تحته .

                                                                      وقال صاحب الصحاح : تفضلت المرأة في بيتها إذا كانت في ثوب واحد كقميص لا كمين له ( وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت ) : أي الآية التي ساقها قبل وهي ادعوهم لآبائهم : وقوله وما جعل أدعياءكم أبناءكم : ( فكيف ترى فيه ) : وفي رواية لمسلم : قالت إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوه وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا .

                                                                      ( أرضعيه ) : وفي رواية لمسلم : قالت كيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال قد علمت أنه رجل كبير ، وفي أخرى له فقالت إنه ذو لحية . قال القاضي عياض : لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها وهذا أحسن ، ويحتمل أنه عفا عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر انتهى ( أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ) : الضمير المرفوع يعود إلى من والمنصوب إلى عائشة ( أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة ) : أي بالرضاعة في الكبر ( حتى يرضع ) : على البناء للمجهول ( في المهد ) : أي في حالة الصغر حين يكون الطفل في المهد .

                                                                      والحديث قد استدل به من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم وهو مذهب عائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية وابن حزم .

                                                                      [ ص: 52 ] وذهب الجمهور إلى اعتبار الصغر في الرضاع المحرم وأجابوا عن قصة سالم بأجوبة ، منها أنه حكم منسوخ وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة ، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها وهو مستند ضعيف إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا من صغره أن لا يكون ما رواه متقدما . وأيضا ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه حيث قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أرضعيه ، قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير ، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي رواية قالت إنه ذو لحية ، قال أرضعيه ، وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم .

                                                                      ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة .

                                                                      ولقائل أن يقول إن دعوى الاختصاص تحتاج إلى دليل وقد اعترفن بصحة الحجة التي جاءت بها عائشة ولا حجة في إبائهن لها كما أنه لا حجة في أقوالهن إذا خالفت المرفوع ، ولو كانت هذه السنة مختصة بسالم لبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز ومنها حديث إنما الرضاعة من المجاعة ، وحديث لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم ، وحديث لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ، رواه الترمذي وصححه ، وحديث لا رضاع إلا ما كان في الحولين رواه الدارقطني وقال لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ .

                                                                      وقد جمع بين حديث الباب وبين هذه الأحاديث بأن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه ويجعل حديث الباب مخصصا لعموم هذه الأحاديث . وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية . وقال الشوكاني : وهذا هو الراجح عندي ، وقال هذه طريقة متوسطة بين طريقة من استدل بهذه الأحاديث على أنه لا حكم لرضاع الكبير مطلقا وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقا لما لا يخلو عنه كل واحدة من هاتين الطريقتين من التعسف انتهى . والله تعالى أعلم وعلمه أتم .

                                                                      قال المنذري : والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي .




                                                                      الخدمات العلمية