الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون

الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة ، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضارا لتلك الأغراض وضبطا لترتب علتها .

وضمير يسرناه عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله [ ص: 321 ] والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إلخ ، والذي كان جل غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة ، وقوله والكتاب المبين ، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من رد العجز على الصدر . فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله فإنما يسرناه بلسانك لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعا على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ .

ويجوز أن يكون المفرع قوله لعلهم يتذكرون . وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماما بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذكرون بهذا لما يسرناه لهم بلسانهم .

والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله بل هم في شك يلعبون أي إنا جعلنا فهمه يسيرا - بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم - إلا ليتذكروا فلم يتذكروا .

فمفعول يسرناه مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره : فهمه .

والباء في بلسانك للسببية ، أي بسبب لغتك ، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبيء - صلى الله عليه وسلم - عناية بجانبه وتعظيم له ، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه .

وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى بلسان عربي مبين .

وأفصح قوله " لعلهم يتذكرون " عن الأمر بالتذكير بالقرآن . والتقدير : فذكرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر ، فالتيسير هنا تسهيل الفهم ، وتقدم عند قوله تعالى فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين إلخ في سورة مريم .

و ( لعل ) مستعملة في التعليل ، أي لأجل أن يتذكروا به ، وهذا كقوله " وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين " .

[ ص: 322 ] وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر ، قال تعالى ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر ، وبأن سبب ذلك التيسير كونه بأفصح اللغات وكونه على لسان أفضل الرسل - صلى الله عليه وسلم - فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسببا قريبا لو لم يكونوا في شك يلعبون .

وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتهديد معانديه بقوله فارتقب إنهم مرتقبون أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى .

وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين " ارتقب " و " مرتقبون " .

وجملة " إنهم مرتقبون " تعليل للأمر في قول " فارتقب " أي ارتقب النصر بأنهم لاقوا العذاب بالقحط وقد أغنت ( إن ) التسبب والتعليل .

وفي هذه الخاتمة رد العجز على الصدر ؛ إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان في صدرها الإنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى .

فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية