الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا )

قال أبو جعفر : وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه ، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه ، وعتاب منه لهم ، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء ، وما لم يكن له استعماله معه ، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم . فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك : لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود : "راعنا" ، تأسيا منكم بهم ، ولكن قولوا : "انظرنا واسمعوا"؛ فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي ، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره ، ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم [ ص: 499 ] من خير من ربكم ، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد ، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة .

وقد قيل إن الله - جل ثناؤه - عنى بقوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، كعب بن الأشرف .

1786 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، هو كعب بن الأشرف .

1787 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان العمري ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، قال : كعب بن الأشرف .

وقال بعضهم بما : -

1788 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية .

قال أبو جعفر : وليس لقول القائل : عنى بقوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) [ ص: 500 ] كعب بن الأشرف ، معنى مفهوم؛ لأن كعب بن الأشرف واحد ، وقد أخبر الله - جل ثناؤه - أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم ، والواحد لا يقال له : "كثير" ، بمعنى الكثرة في العدد ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية ، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته ، كما يقال : "فلان في الناس كثير" ، يراد به كثرة المنزلة والقدر . فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال : ( لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا ) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة ، والمقصود بالخبر عنه الواحد ، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل ، فيكون ذلك أيضا خطأ؛ وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى ، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه ، ولا دلالة تدل في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة ، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك ، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية