الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر ذلك إلى أن ختم بالتطهير، أتبعه التذكير بما أنعم سبحانه به مما أثره التطهير من التأهيل لمشاهدة ما يتكرر من تردد الملائكة بنزول الوحي الذي هو السبب في كل طهر ظاهر وباطن، فقال مخصصا من السياق لأجلهن رضي الله عنهن، منبها لهن على أن بيوتهن مهابط الوحي ومعادن الأسرار: واذكرن أي في أنفسكن ذكرا دائما، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت العناية بالمتلو، بينها بإسناد الفعل إليه لبيان أنه عمدة الجملة فقال بانيا للمفعول: ما يتلى أي يتابع ويوالي ذكره والتخلق به، وأشار لهن إلى ما خصهن منه من الشرف فقال: في بيوتكن أي بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن من آيات الله الذي لا أعظم منه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المراد بذلك القرآن، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال مبينا لشدة الاهتمام به بإدخاله في جملة المتلو اعتمادا على أن العامل فيه معروف لأن التلاوة لا يقال في غير الكتاب: والحكمة [ ص: 348 ] أي ويبث وينشر من العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم، ولا تنسين شيئا من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان السياق للإعراض عن الدنيا، وكانت الحكمة منفرة عنها، أشار بختام الآية إلى أنها مع كونها محصلة لفوز الأخرى جالبة لخير الدنيا، فقال مؤكدا ردعا لمن يشك في أن الرفعة يوصل إليها بضدها ونحو ذلك مما تضمنه الخبر من جليل العبر: إن الله أي والذي له جميع العظمة كان أي لم يزل لطيفا أي يوصل إلى المقاصد بوسائل الأضداد خبيرا أي يدق علمه عن إدراك الأفكار، فهو يجعل الإعراض عن الدنيا جالبا [لها] على أجمل الطرائق وأكمل الخلائق وإن رغمت أنوف جميع الخلائق، ويعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا يصلح، وما يصلح الناس دنيا ودينا وما لا يصلحهم، والطرق الموصلة إلى كل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس "من انقطع إلى الله كفاه كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب" رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين رضي الله عنه "من توكل على الله كفاه، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها" - رواه صاحب الفردوس وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن عمران رضي الله عنه أيضا، ولقد صدق الله سبحانه وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح [ ص: 349 ] على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خيبر، فأفاض بها ما شاء من رزقه الواسع، ثم لما توفي نبيه صلى الله عليه وسلم ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار: الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز جميع [تلك] البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلا، وزاد الأمر حتى دون عمر الدواوين وفرض للناس [عامة ]أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولا لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه: لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال: تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم، فقال عمر رضي الله عنه: إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم، لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه، ولكن قد علمت أن فيه فضلا، فلو أنه إذا خرج عطاء أحدهم ابتاع منه [ ص: 350 ] غنما، فجعلها بسوادكم، فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه، فإني لا أدري ما يكون بعدي، وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات غاشا لرعيته لم يرح ريح الجنة" ، فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفا لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة رضي الله عنها خمسة وعشرين ألفا لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها، وروى عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك يا أم المؤمنين، قالت: سبحان الله! واستترت منه بثوب ، ثم قالت: صبوه واطرحوا عليه ثوبا، ثم قالت لي: أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، قالت برزة بنت رافع: فقلت: غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا المال حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، [ ص: 351 ] فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهما، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت، ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية