الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا وقال عطاء إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك وقال الحسن إن دخل حلقه الذباب فلا شيء عليه وقال الحسن ومجاهد إن جامع ناسيا فلا شيء عليه

                                                                                                                                                                                                        1831 حدثنا عبدان أخبرنا يزيد بن زريع حدثنا هشام حدثنا ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه [ ص: 184 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 184 ] قوله : ( باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا ) أي : هل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلاف مشهورة ، فذهب الجمهور إلى عدم الوجوب ، وعن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء . قال عياض : هذا هو المشهور عنه ، وهو قول شيخه ربيع وجميع أصحاب مالك ، لكن فرقوا بين الفرض والنفل . وقال الداودي : لعل مالكا لم يبلغه الحديث ، أو أوله على رفع الإثم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عطاء : إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك ) أي : دفع الماء بأن غلبه ، فإن ملك دفع الماء فلم يدفعه حتى دخل حلقه أفطر . ووقع في رواية أبي ذر والنسفي : " لا بأس ، لم يملك " بإسقاط " إن " وهي على هذا جملة مستأنفة كالتعليل لقوله : " لا بأس " وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج " قلت لعطاء : إنسان يستنثر فدخل الماء في حلقه . قال : لا بأس بذلك " قال عبد الرزاق ، وقاله معمر عن قتادة . وقال ابن أبي شيبة : حدثنا مخلد عن ابن أبي جريج " أن إنسانا قال لعطاء : أمضمض فيدخل الماء في حلقي . قال : لا بأس ، لم يملك " وهذا يقوي رواية أبي ذر والنسفي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن : إن دخل الذباب في حلقه فلا شيء عليه ) وصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي نجيح " عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يدخل في حلقه الذباب وهو صائم ، قال : لا يفطر " وعن وكيع عن الربيع عن الحسن قال : " لا يفطر " ومناسبة هذين الأثرين للترجمة من جهة أن المغلوب بدخول الماء حلقه أو الذباب لا اختيار له في ذلك كالناسي ، قال ابن المنير في الحاشية : أدخل المغلوب في ترجمة الناسي لاجتماعهما في ترك العمد وسلب الاختيار . ونقل ابن المنذر الاتفاق على أن من دخل في حلقه الذباب وهو صائم أن لا شيء عليه ، لكن نقل غيره عن أشهب أنه قال : أحب إلي أن يقضي . حكاه ابن التين .

                                                                                                                                                                                                        وقال الزين بن المنير : دخول الذباب أقعد بالغلبة وعدم الاختيار من دخول الماء ؛ لأن الذباب يدخل بنفسه بخلاف الاستنشاق والمضمضة فإنما تنشأ عن تسببه ، وفرق إبراهيم بين من كان ذاكرا لصومه حال المضمضة فأوجب عليه القضاء دون الناسي ، وعن الشعبي إن كان لصلاة فلا قضاء وإلا قضى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن ومجاهد : إن جامع ناسيا فلا شيء عليه ) هذان الأثران وصلهما عبد الرزاق قال : " أخبرنا ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لو وطئ رجل امرأته وهو صائم ناسيا في رمضان لم يكن عليه فيه شيء " ، " وعن الثوري عن رجل عن الحسن قال : هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسيا " وظهر بأثر الحسن هذا مناسبة ذكر هذا الأثر للترجمة ، وروي أيضا " عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان ، قال : لا ينسى ، هذا كله عليه القضاء " وتابع عطاء على ذلك الأوزاعي والليث ومالك وأحمد وهو أحد الوجهين للشافعية ، وفرق هؤلاء كلهم بين الأكل والجماع . وعن أحمد في المشهور عنه : تجب عليه الكفارة أيضا ، وحجتهم قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل ، وألحق [ ص: 185 ] به بعض الشافعية من أكل كثيرا لندور نسيان ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن دقيق العيد : ذهب مالك إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا ، وهو القياس ، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات ، والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات . قال : وعمدة من لم يوجب القضاء حديث أبي هريرة ؛ لأنه أمر بالإتمام ، وسمى الذي يتم صوما ، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية . وكأنه يشير بهذا إلى قول ابن القصار : إن معنى قوله : " فليتم صومه " أي : الذي كان دخل فيه ، وليس فيه نفي القضاء . قال : وقوله : " فإنما أطعمه الله وسقاه " مما يستدل به على صحة الصوم ؛ لإشعاره بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه ، فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه ، قال : وتعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب ؛ لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما ، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوما ، وقد اختلف فيه القائلون بأن أكل الناسي لا يوجب قضاء ، واختلف القائلون بالإفساد هل يوجب مع القضاء الكفارة أو لا مع اتفاقهم على أن أكل الناسي لا يوجبها ، ومدار كل ذلك على قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل ، ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس والقياس مع وجود الفارق متعذر ، إلا إن بين القائس أن الوصف الفارق ملغى ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        وأجاب بعض الشافعية بأن عدم وجوب القضاء عن المجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث " من أفطر في شهر رمضان " ؛ لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع ، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا ، ولعدم الاستغناء عنهما غالبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هشام ) هو الدستوائي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا نسي فأكل ) في رواية مسلم من طريق إسماعيل عن هشام : من نسي وهو صائم فأكل وللمصنف في النذر من طريق عوف عن ابن سيرين : من أكل ناسيا وهو صائم ولأبي داود من طريق حبيب بن الشهيد وأيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم ، وهذا الرجل هو أبو هريرة راوي الحديث ، أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فليتم صومه ) في رواية الترمذي من طريق قتادة عن ابن سيرين : " فلا يفطر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإنما أطعمه الله وسقاه ) في رواية الترمذي : فإنما هو رزق رزقه الله وللدارقطني من طريق ابن علية عن هشام : " فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه " قال ابن العربي : تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث ، وتطلع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليه ؛ لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة . قال : وقد روى الدارقطني فيه : " لا قضاء عليك " فتأوله علماؤنا على أن معناه : لا قضاء عليك الآن ، وهذا تعسف ، وإنما أقول : ليته صح فنتبعه ونقول به ، إلا على أصل مالك في أن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به ، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به ، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به . وقال القرطبي احتج به من أسقط القضاء ، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة ؛ لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه ، لكن روى الدارقطني فيه سقوط القضاء وهو نص لا يقبل الاحتمال ، لكن الشأن في صحته ، فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        وأجاب بعض المالكية بحمل الحديث على صوم التطوع كما حكاه ابن التين [ ص: 186 ] عن ابن شعبان ، وكذا قال ابن القصار ، واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع . وقال المهلب وغيره : لم يذكر في الحديث إثباتا لقضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه ، وإثبات عذره ، ورفع الإثم عنه ، وبقاء نيته التي بيتها ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ : من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء . قال الدارقطني : تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري ، وتعقب بأن ابن خزيمة أخرجه أيضا عن إبراهيم بن محمد الباهلي وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي كلاهما عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال البيهقي وهو ثقة ، والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان ، فإن النسائي أخرج الحديث من طريق علي بن بكار عن محمد بن عمرو ولفظه : في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيا ، فقال : الله أطعمه وسقاه وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر عن أبي هريرة أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عيسى بن الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه : فإنما هو رزق ساقه الله إليه ، ولا قضاء عليه . وقال بعد تخريجه : هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات .

                                                                                                                                                                                                        قلت : لكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق ابن علية وليس فيه هذه الزيادة . وروى الدارقطني أيضا إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار ، كلهم عن أبي هريرة ، وأخرج أيضا من حديث أبي سعيد رفعه : من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة ، فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به ، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة ، ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم - كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما - علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر ، ثم هو موافق لقوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فالنسيان ليس من كسب القلب ، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام ، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل ، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلم ؛ لأنه قاعدة مستقلة بالصيام فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة ، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ، وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهما ، وقد روى أحمد لهذا الحديث سببا ، فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق أنها " كانت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ، ثم تذكرت أنها كانت صائمة ، فقال لها ذو اليدين : الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتمي صومك ، فإنما هو رزق ساقه الله إليك " وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره .

                                                                                                                                                                                                        ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار : أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال : أصبحت صائما فنسيت فطعمت ، قال : لا بأس . قال : ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت ، قال : لا بأس ، الله أطعمك وسقاك . ثم قال : دخلت على آخر فنسيت فطعمت ، فقال أبو هريرة : أنت إنسان لم تتعود الصيام .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية