الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( 29 ) )

[ ص: 151 ] يقول تعالى ذكره : ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتا لا ساكن بها بغير استئذان .

ثم اختلفوا في ذلك أي البيوت عنى ، فقال بعضهم : عنى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون ، وإنما بنيت لمارة الطريق والسابلة ، ليأووا إليها ، ويؤووا إليها أمتعتهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن سالم المكي ، عن محمد ابن الحنفية ، في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) قال : هي الخانات التي تكون في الطرق .

حدثني عباس بن محمد ، قال : ثنا مسلم ، قال : ثنا عمر بن فروخ ، قال : سمعت قتادة يقول : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : هي الخانات تكون لأهل الأسفار .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا ، فرخص لهم أن يدخلوها .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : هي البيوت التي ينزلها السفر ، لا يسكنها أحد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : كانوا يصنعون ، أو يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد ، فأحل لهم أن يدخلوها بغير إذن .

حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . إلا أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة ، بغير شك .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، غير أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) هي البيوت التي ليس لها [ ص: 152 ] أهل ، وهي البيوت التي تكون بالطرق والخربة ( فيها متاع ) منفعة للمسافر في الشتاء والصيف ، يأوي إليها .

وقال آخرون : هي بيوت مكة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن سعيد بن سائق ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن سالم بن محمد ابن الحنفية في : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : هي بيوت مكة .

وقال آخرون : هي البيوت الخربة والمتاع الذي قال الله فيها لكم قضاء الحاجة ، من الخلاء والبول فيها .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عطاء يقول ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : الخلاء والبول .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا حسن بن عيسى بن زيد ، عن أبيه ، في هذه الآية ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : التخلي في الخراب .

وقال آخرون : بل عنى بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : بيوت التجار ، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن ، الحوانيت التي بالقيساريات والأسواق ، وقرأ ( فيها متاع لكم ) متاع للناس ، ولبني آدم .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عم بقوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) كل بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن ; لأن الإذن إنما يكون ليؤنس المأذون عليه قبل الدخول ، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا ، أو كان فيه ساكنا . فأما إن كان لا مالك له فيحتاج إلى إذنه لدخوله [ ص: 153 ] ولا ساكن فيه فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه ، لئلا يهجم على ما لا يحب رؤيته منه ، فلا معنى للاستئذان فيه . فإذا كان ذلك ، فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض ، فكل بيت لا مالك له ، ولا ساكن ، من بيت مبني ببعض الطرق للمارة والسابلة ; ليأووا إليه ، أو بيت خراب ، قد باد أهله ولا ساكن فيه ، حيث كان ذلك ، فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان ، لمتاع له يؤويه إليه ، أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك وأما بيوت التجار ، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها .

فإن ظن ظان أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس ، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه ، أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه ، لا سيما إذا كان فيه متاع ، فإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول ، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه . وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن من معنى قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) في شيء ، وذلك أن التي وضع الله عنا الجناح في دخولها بغير إذن من البيوت ، هي ما لم يكن مسكونا ، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه ، وهو مع ذلك مسكون ، فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل .

وقال جماعة من أهل التأويل : هذه الآية مستثناة من قوله : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ) ثم نسخ واستثنى فقال : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ( حتى تستأنسوا ) . . الآية ، فنسخ من ذلك ، واستثني فقال : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) .

وليس في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) دلالة على أنه استثناء من قوله : [ ص: 154 ] ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا ) ; لأن قوله : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) حكم من الله في البيوت التي لها سكان وأرباب . وقوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) حكم منه في البيوت التي لا سكان لها ، ولا أرباب معروفون ، فكل واحد من الحكمين حكم في معنى غير معنى الآخر ، وإنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان من جنسه أو نوعه في الفعل أو النفس ، فأما إذا لم يكن كذلك ، فلا معنى لاستثنائه منه . وقوله : ( والله يعلم ما تبدون ) يقول تعالى ذكره : والله يعلم ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ( وما تكتمون ) يقول : وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به إطاعة الله ، والانتهاء إلى أمره ، أم غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية