الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( وقل ) يا محمد ( للمؤمنات ) من أمتك ( يغضضن من أبصارهن ) عما يكره الله النظر إليه مما نهاكم عن النظر إليه ( ويحفظن فروجهن ) يقول : ويحفظن فروجهن عن أن يراها من لا يحل له رؤيتها ، بلبس ما يسترها عن أبصارهم .

وقوله : ( ولا يبدين زينتهن ) يقول تعالى ذكره : ولا يظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهن ، وهما زينتان : إحداهما : ما خفي وذلك كالخلخال والسوارين والقرطين والقلائد ،

والأخرى : ما ظهر منها ، وذلك مختلف في المعني منه بهذه الآية ، فكان بعضهم يقول : زينة الثياب الظاهرة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، قال : الزينة زينتان : فالظاهرة منها الثياب ، وما خفي : الخلخالان والقرطان والسواران .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الثوري ، عن أبي إسحاق [ ص: 156 ] الهمداني ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، أنه قال : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) : قال : هي الثياب .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الثياب .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، مثله .

قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن عبد الله ، مثله .

قال : ثنا سفيان ، عن علقمة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) : قال : الثياب .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا بعض أصحابنا ، إما يونس ، وإما غيره ، عن الحسن ، في قوله : ( إلا ما ظهر منها ) قال : الثياب .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ( إلا ما ظهر منها ) قال : الثياب .

قال أبو إسحاق : ألا ترى أنه قال : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثنا محمد بن الفضل ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن ابن مسعود ( إلا ما ظهر منها ) قال : هو الرداء .

وقال آخرون : الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه : الكحل ، والخاتم ، والسواران ، والوجه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مروان ، قال : ثنا مسلم الملائي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الكحل والخاتم .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان ، عن مسلم الملائي ، عن سعيد بن جبير ، مثله . ولم يذكر ابن عباس .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون ، عن أبي عبد الله نهشل ، عن الضحاك ، عن [ ص: 157 ] ابن عباس ، قال : الظاهر منها : الكحل والخدان .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الوجه والكف .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثنا أبو عمرو ، عن عطاء في قول الله ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الكفان والوجه .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة قال : الكحل ، والسوران ، والخاتم .

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : والزينة الظاهرة : الوجه ، وكحل العين ، وخضاب الكف ، والخاتم ، فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : المسكتان والخاتم والكحل ، قال قتادة : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، أن تخرج يدها إلا إلى هاهنا " . وقبض نصف الذراع .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن رجل ، عن المسور بن مخرمة ، في قوله : ( إلا ما ظهر منها ) قال : القلبين ، والخاتم ، والكحل ، يعني السوار .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الخاتم والمسكة .

قال ابن جريج ، وقالت عائشة : القلب والفتخة ، قالت عائشة : دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعرض ، فقالت عائشة : يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية ، فقال : " إذا عركت المرأة لم [ ص: 158 ] يحل لها أن تظهر إلا وجهها ، وإلا ما دون هذا " ، وقبض على ذراع نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى . وأشار به أبو علي .

قال ابن جريج ، وقال مجاهد قوله : ( إلا ما ظهر منها ) قال : الكحل والخضاب والخاتم .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عاصم ، عن عامر : ( إلا ما ظهر منها ) قال الكحل ، والخضاب ، والثياب .

حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) من الزينة : الكحل ، والخضاب ، والخاتم ، هكذا كانوا يقولون وهذا يراه الناس .

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمر بن أبي سلمة ، قال : سئل الأوزاعي عن ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الكفين والوجه .

حدثنا عمرو بن بندق ، قال : ثنا مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك في قول : ( ولا يبدين زينتهن ) قال الكف والوجه .

وقال آخرون : عنى به الوجه والثياب .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : قال يونس ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال الحسن : الوجه والثياب .

حدثنا ابن بشار ، قال ثنا ابن أبي عدي ، وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال : الوجه والثياب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : عني بذلك : الوجه والكفان ، يدخل في ذلك إذا كان كذلك : الكحل ، والخاتم ، والسوار ، والخضاب .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل ; لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن يستر عورته في صلاته ، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها ، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها ، إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف . فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا ، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها [ ص: 159 ] ما لم يكن عورة ، كما ذلك للرجال ; لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره ; وإذا كان لها إظهار ذلك ، كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره ، بقوله : ( إلا ما ظهر منها ) لأن كل ذلك ظاهر منها .

وقوله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) يقول تعالى ذكره : وليلقين خمرهن ، وهي جمع خمار ، على جيوبهن ، ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وقرطهن .

حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا زيد بن حباب ، عن إبراهيم بن نافع ، قال : ثنا الحسن بن مسلم بن يناق ، عن صفية بنت شيبة ، عن عائشة ، قالت : لما نزلت هذه الآية : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) قال شققن البرد مما يلي الحواشي ، فاختمرن به .

حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن قرة بن عبد الرحمن ، أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن أكثف مروطهن ، فاختمرن به .

وقوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) يقول تعالى ذكره : ( ولا يبدين زينتهن ) التي هي غير ظاهرة ، بل الخفية منها ، وذلك الخلخال والقرط والدملج ، وما أمرت بتغطيته بخمارها من فوق الجيب ، وما وراء ما أبيح لها كشفه ، وإبرازه في الصلاة وللأجنبيين من الناس ، والذراعين إلى فوق ذلك ، إلا لبعولتهن .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن طلحة بن مصرف ، عن إبراهيم : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ) قال : هذه ما فوق الذراع .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، قال : سمعت رجلا يحدث عن طلحة ، عن إبراهيم ، قال في هذه الآية ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ) قال : ما فوق الجيب ، قال شعبة : كتب به منصور إلي ، وقرأته عليه .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) قال : تبدي لهؤلاء الرأس .

[ ص: 160 ] حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) . . إلى قوله : ( عورات النساء ) قال : الزينة التي يبدينها لهؤلاء : قرطاها ، وقلادتها ، وسوارها ، فأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها ، فإنه لا تبديه إلا لزوجها .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : ابن مسعود ، في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) قال : الطوق والقرطين ، يقول الله تعالى ذكره : قل للمؤمنات الحرائر : لا يظهرن هذه الزينة الخفية التي ليست بالظاهرة إلا لبعولتهن ، وهم أزواجهن ، واحدهم بعل ، أو لآبائهن ، أو لآباء بعولتهن : يقول أو لآباء أزواجهن ، أو لأبنائهن ، أو لأبناء بعولتهن ، أو لإخوانهن ، أو لبني إخوانهن ، ويعني بقوله : أو لإخوانهن أو لأخواتهن ، أو لبني إخوانهن ، أو بني أخواتهن ، أو نسائهن . قيل : عني بذلك نساء المسلمين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( أو نسائهن ) قال : بلغني أنهن نساء المسلمين ، لا يحل لمسلمة أن ترى مشركة عريتها ، إلا أن تكون أمة لها ، فذلك قوله : ( أو ما ملكت أيمانهن ) .

قال : ثني الحسين ، قال : ثني عيسى بن يونس ، عن هشام بن الغازي ، عن عبادة بن نسي : أنه كره أن تقبل النصرانية المسلمة ، أو ترى عورتها ، ويتأول : ( أو نسائهن ) .

قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن عبادة ، قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح رحمة الله عليهما : أما بعد ، فقد بلغني أن نساء يدخلن الحمامات ، ومعهن نساء أهل الكتاب ، فامنع ذلك ، وحل دونه . قال : ثم إن أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم ، تريد البياض لوجهها ، فسود وجهها يوم تبيض الوجوه .

وقوله : ( أو ما ملكت أيمانهن ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال : بعضهم : أو مماليكهن ، فإنه لا بأس عليها أن تظهر لهم من زينتها ما تظهره لهؤلاء .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : [ ص: 161 ] أخبرني عمرو بن دينار ، عن مخلد التميمي ، أنه قال ، في قوله : ( أو ما ملكت أيمانهن ) قال : في القراءة الأولى : أيمانكم .

وقال : آخرون : بل معنى ذلك : أو ما ملكت أيمانهن من إماء المشركين ، كما قد ذكرنا عن ابن جريج قبل من أنه لما قال : ( أو نسائهن ) عنى بهن النساء المسلمات دون المشركات ، ثم قال : أو ما ملكت أيمانهن من الإماء المشركات .

التالي السابق


الخدمات العلمية