الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 166 - 167 ] ( فصل ) ( ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة ) وقال مالك : تجوز بالعروض والمكيل والموزون [ ص: 168 ] أيضا إذا كان الجنس واحدا ; لأنها عقدت على رأس مال معلوم فأشبه النقود ، بخلاف المضاربة لأن القياس يأباها لما فيها من ربح ما لم يضمن . [ ص: 169 ] فيقتصر على مورد الشرع . ولنا أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن ; لأنه إذا باع كل واحد منهما رأس ماله وتفاضل الثمنان فما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه ربح ما لم يملك وما لم يضمن ، بخلاف الدراهم والدنانير لأن ثمن ما يشتريه في ذمته إذ هي لا تتعين فكان ربح ما يضمن ، ولأن أول التصرف في العروض البيع وفي النقود الشراء ، وبيع أحدهما ماله على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز ، وشراء أحدهما شيئا بماله على أن يكون المبيع بينه وبين غيره جائز .

وأما الفلوس النافقة فلأنها تروج رواج الأثمان فالتحقت بها .

[ ص: 170 ] قالوا : هذا قول محمد لأنها ملحقة بالنقود عنده حتى لا تتعين بالتعيين ، ولا يجوز بيع اثنين بواحد بأعيانها على ما عرف ، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لا تجوز الشركة والمضاربة بها لأن ثمنيتها تتبدل ساعة فساعة وتصير سلعة . وروي عن أبي يوسف مثل قول محمد ، والأول أقيس وأظهر ، وعن أبي حنيفة صحة المضاربة بها .

التالي السابق


( فصل )

لما ذكر اشتراط المساواة في رأس مال شركة المفاوضة احتاج إلى بيان أي مال تصح به ، فقال : ( لا تنعقد الشركة ) أي شركة المفاوضة ( إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة ) يعني لا تنعقد المفاوضة إذا ذكر فيها المال إلا بذلك ، وإنما قلنا هذا ; لأنه ذكر في المبسوط أن المفاوضة والعنان يكون كل منهما في شركة الوجوه والتقبل فيصح قولنا [ ص: 168 ]

المفاوضة تنعقد في الوجوه والتقبل بلا مال فصدق بعض المفاوضة تنعقد بلا دراهم ودنانير وفلوس ، وهو يناقض قوله لا تنعقد المفاوضة إلا بالدراهم إلخ ; لأن الإيجاب الجزئي يناقض السلب الكلي ، والتقييد بما ذكر يخرج الدين والعروض ، وهو قول أحمد والشافعي في وجه ، وفي وجه يجوز بالعروض المثلى ، وقال مالك تجوز بالعروض إذا اتحد جنسها .

وقال الأوزاعي وحماد بن أبي سليمان : تجوز الشركة والمضاربة بالعروض ، ولو وقع تفاضل في بيعها يرجع كل بقيمة عرضه عند العقد ، وكما لا تجوز عندنا بالعرض لا يجوز أن يكون رأس مال أحدهما عرضا والآخر دراهم أو دنانير ، ولم يشترط حضور المال وقت العقد وهو صحيح ، بل الشرط وجوده وقت الشراء .

وتقدم أنه لو دفع إلى رجل ألفا ، وقال : أخرج مثلها واشتر بها وبع فما ربحت فهو بيننا ففعل صح ، إلا أنه لا بد أن يقيم البينة أنه فعل ليلزم الآخر إذا لم يصدقه لو ثبتت وضيعة ، وقيد بالدراهم والدنانير لإخراج الحلي والتبر فلا يصلحان رأس مال الشركة إلا فيما سنذكره ، وأما الفلوس النافقة فلم يذكر القدوري والحاكم أبو الفضل في الكافي فيها خلافا ، بل اقتصر على أن قال : ولا تجوز الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس .

وخص الكرخي الجواز بالفلوس على قولهما ، وبعضهم جعل الظاهر الجواز ، وعدم الجواز رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال : لو كان رأس مال أحدهما فلوسا لم تجز الشركة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ; لأنها إنما صارت ثمنا باصطلاح الناس ، وليست ثمنا في الأصل وهم لم يتعاملوا أن يجعلوها رأس مال الشركة .

وعند محمد يجوز وهو قول أبي يوسف الأول . وقال المصنف ( قالوا ) يعني المتأخرين : ( هذا قول محمد ) واستدل عليه بمسألتين : إحداهما أن الفلوس لا تتعين بالتعين ولا يجوز بيع فلس بفلسين إذا كانا بعينهما عند محمد خلافا لهما ، وسيأتي الوجه والتقييد بأعيانهما احترازا عما لو باع فلسا بفلسين دينا ، فإنه لا يجوز اتفاقا ; لأن حرمة النساء تثبت باتحاد الجنس .

وجه قول مالك أن الجنس إذا كان متحدا فقد ( عقدت على رأس مال معلوم ) فكانت كالنقود ( بخلاف المضاربة ) حيث لا تجوز إلا بالنقود ; لأنها شرعت على خلاف القياس ( لما فيها من ربح ما لم يضمن ) فإن المال غير مضمون على المضارب [ ص: 169 ] ويستحق ربحه ( فيقتصر على مورد الشرع . ولنا أن رأس مال الشركة )

في العروض والمكيل والموزون ( يؤدي إلى ربح ما لم يضمن ) ; لأنه إذا باع كل منهما عرضه واتفق تفاضل الثمنين ( فما يستحقه أحدهما من الزيادة على حصة رأس ماله ) الذي هو ثمن عرضه ( ربح ما لم يملكه ) ولم يضمنه ( بخلاف النقود ) فإن كل واحد ثم وكيل عن صاحبه في الشراء بماله ، وما يشتريه كل منهما لا يتعلق برأس المال لعدم التعيين ، فيكون واجبا في ذمته فربحه ربح ما ضمنه .

فإن قيل : هذا لا يلزم ; لأنه يشترط خلط العرضين لاتحاد جنسهما مكيلين أو موزونين أو غيرهما متحدي القيمة كثياب الكرباس من بابة واحدة .

قلنا : الخلط لا يوجب الاشتراك في كل ثوب وحبة مثلا ، فإذا باعا جملة في وقت طلوع السعر من ذلك لم يعلم أن عدد ما بيع من الأجزاء وقبضه المشتري متساويان ، بل الظاهر أنهما متفاوتان ، فيلزم اختصاص أحدهما بزيادة ربح لزيادة ملكه ، والتخلص عنه ليس إلا بضبط قدر ملكه ، وهو مجهول فقد أدى إلى تعذر الوصول إلى قدر حقه وربح الآخر ما لم يضمن ، ولأن القيمة لا تعرف إلا بالحزر والظن ولا يفيدان العلم بالقيمة فيؤدي إلى المنازعة فيه ، وهذا إنما يلزم لو اعتبر رأس المال قيمة العروض ، أما إذا كان هو نفس العروض من جنس واحد متحدة القيمة وقت العقد

وقد خلطاه فيه فلا تنازع .

نعم اللازم ربح ما لم يضمن وتعذر ما يدفعه ( ولأن أول التصرف في العروض البيع وفي النقود الشراء ، وبيع الإنسان ماله على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز ، وشراؤه شيئا بماله على أن يكون الآخر شريكا فيه يجوز ) ، وعلمت أن الخلط لا ينفي ذلك ( وجه قول محمد أن الفلوس إذا كانت نافقة تروج رواج الأثمان فالتحقت بها ) ولأبي حنيفة وأبي يوسف [ ص: 170 ] أن ثمنيتها تتبدل ساعة فساعة ) فإنها باصطلاح الناس لا بالخلقة ، ففي كل ساعة تنتفي بانتفاء الخلقة .

وتصير ثمنا بالاصطلاح القائم ، ولا يخفى أن هذا إنما هو في الملاحظة ، أما في الخارج فهي ثمن مستمر ما استمر الاصطلاح عليها ، ولذا قال الإسبيجابي : الصحيح أن عقد الشركة على الفلوس يجوز على قول الكل ; لأنها صارت ثمنا باصطلاح الناس ، ولهذا لو اشترى شيئا بفلوس بعينها لم تتعين تلك الفلوس حتى لا يفسد العقد لهلاكها .

قال المصنف ( وروي عن أبي يوسف مثل قول محمد ، والأول أقيس وأظهر ) ; لأن قوله مع أبي حنيفة مستقر في بيع فلس بفلسين ، ( وعن أبي حنيفة جواز المضاربة بها ) وعلى ما ذكر من مبسوط الإسبيجابي يجب أن يكون قول الكل الآن على جواز الشركة والمضاربة بالفلوس النافقة وعدم التعيين




الخدمات العلمية