الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (15) قوله : مثل الجنة : فيه أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره مقدر . فقدره النضر بن شميل : مثل الجنة ما تسمعون ، فـ " ما تسمعون " خبره ، و " فيها أنهار " مفسر له . وقدره سيبويه : " فيما يتلى عليكم مثل الجنة " ، والجملة بعدها أيضا مفسرة للمثل . الثاني : أن " مثل " زائدة تقديره : الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار . ونظير زيادة " مثل " هنا زيادة " اسم " في قوله : [ ص: 691 ]

                                                                                                                                                                                                                                      4055 - إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن " مثل الجنة " مبتدأ ، والخبر قوله : " فيها أنهار " ، وهذا ينبغي أن يمتنع ; إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ ، ولا ينفع كون الضمير عائدا على ما أضيف إليه المبتدأ . الرابع : أن " مثل الجنة " مبتدأ ، خبره " كمن هو خالد في النار ، فقدره ابن عطية : " أمثل أهل الجنة كمن هو خالد " ، فقدر حرف الإنكار ومضافا ليصح . وقدره الزمخشري : " أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد " . والجملة من قوله : " فيها أنهار " على هذا فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : هي حال من الجنة أي : مستقرة فيها أنهار . الثاني : أنها خبر لمبتدأ مضمر أي : هي فيها أنهار ، كأن قائلا قال : ما مثلها ؟ فقيل : فيها أنهار . الثالث : أن تكون تكريرا للصلة ; لأنها في حكمها ألا ترى إلى أنه يصح قولك : التي فيها أنهار ، وإنما عري قوله : " مثل الجنة " من حرف الإنكار تصويرا لمكابرة من يسوي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه كمن يسوي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت ، وبين النار التي صفتها أن يسقى أهلها الحميم . ونظيره قول القائل :


                                                                                                                                                                                                                                      4056 - أفرح أن أرزأ الكرام وأن     أورث ذودا شصائصا نبلا



                                                                                                                                                                                                                                      هو كلام منكر للفرح برزئه الكرام ووراثة الذود ، مع تعريه من حرف الإنكار ، ذكر ذلك كله الزمخشري بأطول من هذه العبارة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 692 ] وقرأ علي بن أبي طالب " مثال الجنة " . وعنه أيضا وعن ابن عباس وابن مسعود " أمثال " بالجمع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " آسن " قرأ ابن كثير " أسن " بزنة حذر وهو اسم فاعل من أسن بالكسر يأسن ، فهو أسن كـ حذر يحذر فهو حذر . والباقون " آسن " بزنة ضارب من أسن بالفتح يأسن ، يقال : أسن الماء بالفتح يأسن ويأسن بالكسر والضم أسونا ، كذا ذكره ثعلب في " فصيحه " . وقال اليزيدي : " يقال : أسن بالكسر يأسن بالفتح أسنا أي : تغير طعمه . وأما أسن الرجل - إذا دخل بئرا فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دوارا - فأسن بالكسر فقط .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      4057 - قد أترك القرن مصفرا أنامله     يميد في الرمح ميد المائح الأسن



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " يسن " بالياء بدل الهمزة . قال أبو علي : " هو تخفيف أسن " وهو تخفيف غريب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لم يتغير طعمه صفة لـ " لبن " . قوله : " لذة " يجوز أن يكون تأنيث [ ص: 693 ] لذ ، ولذ بمعنى لذيذ ، ولا تأويل على هذا ، ويجوز أن يكون مصدرا وصف به . وفيه التأويلات المشهورة . والعامة على جر " لذة " صفة لـ " خمر " وقرئ بالنصب على المفعول له ، وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة ، وبالرفع صفة لـ " أنهار " ، ولم تجمع لأنها مصدر إن قيل به ، وإن لا فلأنها صفة لجمع غير عاقل ، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " من عسل " نقلوا في " عسل " التذكير والتأنيث ، وجاء القرآن على التذكير في قوله : " مصفى " . والعسلان : العدو . وأكثر استعماله في الذئب ، يقال : عسل الذئب والثعلب ، وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه ، فكأن العادي يهز أعضاءه ويحركها قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      4058 - لدن بهز الكف يعسل متنه     فيه كما عسل الطريق الثعلب



                                                                                                                                                                                                                                      وكني بالعسيلة عن الجماع لما بينهما . قال عليه السلام : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . قوله : من كل الثمرات فيها وجهان ، أحدهما : أن هذا الجار صفة لمقدر ، ذلك المقدر مبتدأ ، وخبره الجار قبله وهو " لهم " . و " فيها " متعلق بما تعلق به . والتقدير : ولهم فيها زوجان من كل الثمرات ، كأنه انتزعه من قوله [ ص: 694 ] تعالى : فيهما من كل فاكهة زوجان وقدره بعضهم : صنف ، والأول أليق . والثاني : أن : " من " مزيدة في المبتدأ .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " ومغفرة " فيه وجهان ، أحدهما : أنه عطف على ذلك المقدر لا بقيد كونه في الجنة أي : ولهم مغفرة ، لأن المغفرة تكون قبل دخول الجنة أو بعيد ذلك . ولا بد من حذف مضاف حينئذ أي : ونعيم مغفرة ; لأنه ناشئ عن المغفرة ، وهو في الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن يجعل خبرها مقدرا أي : ولهم مغفرة . والجملة مستأنفة . والفرق بين الوجهين : أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار بـ " لهم " الملفوظ به عن سنن ذلك المحذوف ، و " مغفرة " ، وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر ، حذف للدلالة عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " كمن هو " قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا عن " مثل الجنة " بالتأويلين المذكورين عن ابن عطية والزمخشري . وأما إذا لم نجعله خبرا عن " مثل " ففيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : أحال هؤلاء المتقين كحال من هو خالد . وهذا تأويل صحيح . وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية وقال : " وهو في موضع رفع أي : حالهم كحال من هو خالد في النار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو استهزاء بهم . وقيل : هو على معنى الاستفهام ، أي : أكمن هو خالد . وقيل : في موضع نصب أي : يشبهون حال من هو خالد في النار " انتهى . معنى قوله : " وقيل هو استهزاء " أي : أن الإخبار بقولك : حالهم كحال من ، على سبيل الاستهزاء والتهكم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 695 ] قوله : " وسقوا " عطف على الصلة ، عطف فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأول لفظ " من " فأفرد ، وفي الثانية معناها فجمع .

                                                                                                                                                                                                                                      والأمعاء : جمع معى بالقصر ، وهو المصران الذي في البطن وقد وصف بالجمع في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      4059 - ... ... ... ...      ... ... ... ... ومعى جياعا



                                                                                                                                                                                                                                      على إرادة الجنس . وألفه عن ياء بدليل قولهم : معيان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية