الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يقنت منكن أي ومن تخشع وتخضع لله ورسوله عملا وتعمل صالحا كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة، وهذا العمل غير القنوت لله تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار، وفسره بعضهم بالطاعة، ودفع التكرار بأن المراد ومن يقنت منكن لرسول الله وتعمل صالحا لله تعالى، وذكر الله إنما هو لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بجعل طاعته غير منفكة عن طاعة الله عز وجل، وبعضهم بما ذكر أيضا إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر، وقيل: المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح: العبادات التي يكلفن بها بعد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى: وقوموا لله قانتين [البقرة: 238] والمراد به هاهنا السكوت عن طلب ما لم يأذن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة، وقيل غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      نؤتها أجرها الذي تستحقه على ذلك فضلا وكرما مرتين فيكون أجرها مضاعفا وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين: أنه من عصى منكن فإنه يكون للعذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحا فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين، ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها أثبن هن على الحسنة بعشرين مثلا لها، وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه، وكأنه والله تعالى أعلم إنما قيل نؤتها أجرها مرتين دون يضاعف لها الأجر، كما قيل في المقابل يضاعف لها العذاب ضعفين لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحا من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره، فأخرج الكلام مغايرا لما تقتضيه المقابلة رمزا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الاعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى، ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك - شهداء على ما ذكر، ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي الله تعالى عنهن على الله عز وجل مما من به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية، والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملنها في حياته صلى الله عليه وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعملنها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. [ ص: 3 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأجلة: إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة، وجعل في البحر وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك الطاعة، ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقال بعض المدققين: أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية، حيث جعل القنوت لله ولرسوله مع ما تلاه سببا، ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك اقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك، فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر، فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى، ولا يخفى ضعفه وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية وكذا ابن عامر «ومن تقنت» بتاء التأنيث حملا على المعنى وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في «يؤتها» ضمير اسم الله تعالى، وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ «ومن تقنت» بالتاء من فوق حملا على المعنى «ويعمل» بالياء من تحت حملا على اللفظ، فقال بعض النحويين: هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا [الأنعام: 139] انتهى ، فتذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأعتدنا لها في الجنة زيادة على أجرها المضاعف رزقا كريما عظيم القدر رفيع الخطر مرضيا لصاحبه، وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز ابن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي، أي إن رزقها في الدنيا على الله تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من الله تعالى في نيله، وهو كما ترى

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية