الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) [ ص: 214 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما تكلم في مسألة الحشر والنشر ، تكلم الآن في الرد على عباد الأصنام فحكى عنهم أنهم إنما اتخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا لهم عزا ، حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ، ينقذونهم من الهلاك . ثم أجاب الله تعالى بقوله : ( كلا ) وهو ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة ، وقرأ ابن نهيك : " كلا سيكفرون بعبادتهم " أي كلهم سيكفرون بعبادة هذه الأوثان ، وفي " محتسب " ابن جني كلا بفتح الكاف والتنوين ، وزعم أن معناه كل هذا الاعتقاد والرأي كلا ، قال صاحب " الكشاف " : إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا ، واختلفوا في أن الضمير في قوله : ( سيكفرون ) يعود إلى المعبود أو إلى العابد فمنهم من قال إنه يعود إلى المعبود ، ثم قال بعضهم : أراد بذلك الملائكة ؛ لأنهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم ويتبرءون منهم ويخاصمونهم وهو المراد من قوله : ( أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) [ سبأ : 40 ] وقال آخرون : إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرءوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ومن الناس من قال الضمير يرجع إلى العباد أي أن هؤلاء المشركين يوم القيامة ينكرون أنهم عبدوا الأصنام ثم قال تعالى : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] أما قوله : ( ويكونون عليهم ضدا ) فذكر ذلك في مقابلة قوله : ( لهم عزا ) والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أي يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلا لهم لا عزا أو يكونون عليهم عونا والضد العون ، يقال من أضدادكم أي من أعوانكم ، وكأن العون يسمى ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه ، فإن قيل : ولم وحد ؟ قلنا : وحد توحيد قوله - عليه السلام - : " وهم يد على من سواهم " لاتفاق كلمتهم فإنهم كشيء واحد لفرط انتظامهم وتوافقهم ، ومعنى كون الآلهة عونا عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها ، واعلم أنه تعالى لما ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنهم يسألونهم وينقادون لهم فقال : ( أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فقالوا : قول القائل : أرسلت فلانا على فلان موضوع في اللغة لإفادة أنه سلطه عليه ؛ لإرادة أن يستولي عليه . قال - عليه السلام - : سم الله وأرسل كلبك عليه . إذا ثبت هذا فقوله : ( أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) يفيد أنه تعالى سلطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم وذلك يفيد المقصود ثم يتأكد هذا بقوله : ( تؤزهم أزا ) فإن معناه إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لتؤزهم أزا ويتأكد بقوله : ( واستفزز من استطعت منهم ) [ الإسراء : 64 ] قال القاضي : حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم [ ص: 215 ] فلا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين وذلك كفر من قائله ، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك ؛ لأن عندهم أن ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر ، فلا تأثير لما يكون من الشيطان ، وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلا بد من التأويل فنحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار ، وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالا في سعة اللغة . كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال : أرسل كلبه عليه وإن لم يرد أذى الناس ، وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) [ إبراهيم : 22 ] هذا تمام كلامه ، ونقول لا نسلم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فإن قوله : " [أرسلنا] الشياطين " لو أرسلهم الله إلى الكفار لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين ، قلنا الله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم ، والإرسال عليهم : هو التسليط لإرادة أن يصير مستوليا عليه ، فأين هذا من الإرسال إليهم ، قوله : ضلال الكافر من قبل الله تعالى فأي تأثير للشيطان فيه ؟ قلنا : لم لا يجوز أن يقال : إن إسماع الشيطان إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه ذلك الضلال بشرط سلامة فهم السامع ؛ لأن كلام الشيطان من خلق الله تعالى فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسبا إلى الشيطان ، وإلى الله تعالى من هذين الوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله لم لا يجوز أن يكون المراد بالإرسال التخلية قلنا : كما خلى بين الشيطان والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء ، ثم إنه تعالى خص الكافر بأنه أرسل الشيطان عليه فلا بد من فائدة زائدة ههنا ولأن قوله : ( تؤزهم أزا ) أي تحركهم تحريكا شديدا ، كالغرض من ذلك الإرسال فوجب أن يكون الأز مرادا لله تعالى ، ويحصل المقصود منه فهذا ما في هذا الموضع والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال ابن عباس : " تؤزهم أزا " أي تزعجهم في المعاصي إزعاجا نزلت في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط قال صاحب " الكشاف " : الأز والهز والاستفزاز أخوات في معنى التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتحثهم وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات ، أما قوله تعالى : ( فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ) يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجلته به أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا أو يبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ، ونظيره قوله تعالى : ( ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ) [ الأحقاف : 35 ] عن ابن عباس أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد دخول قبرك ، آخر العدد فراق أهلك . وعن ابن السماك رحمه الله أنه كان عند المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد . وذكروا في قوله : ( نعد لهم عدا ) وجهين آخرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : نعد أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : نعد الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان ، ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) قال صاحب " الكشاف " : نصب ( يوم ) بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو اذكر يوم نحشر ، ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي - عليه السلام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب " ثم تلا هذه الآية . وفيها مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 216 ] المسألة الأولى : قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين ؛ لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال ؟

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله : ( إلى الرحمن ) يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن ، وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : طعن الملحد فيه فقال قوله : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم ، أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله : ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) وردا فقوله : ( نسوق ) يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء ، والورد اسم للعطاش ؛ لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش . وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون . أما قوله : ( لا يملكون الشفاعة ) أي فليس لهم ، والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا ، وقال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون ، وقال بعضهم : بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى ؛ لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاح الواضحات ، وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر ؛ لأنه قال عقيبه : ( إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهد التوحيد والنبوة ، فوجب أن يكون داخلا تحته ، ومما يؤكد قولنا : ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام - قال لأصحابه ذات يوم : " أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا ؟ قالوا وكيف ذلك ؟ قال : يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد . فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة " ، فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي : الآية دالة على مذهبه ، وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية