الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( 55 ) )

[ ص: 208 ] يقول تعالى ذكره : ( وعد الله الذين آمنوا بالله ورسوله منكم ) أيها الناس ، ( وعملوا الصالحات ) يقول : وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه ( ليستخلفنهم في الأرض ) يقول : ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها ( كما استخلف الذين من قبلهم ) يقول : كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل ، إذ أهلك الجبابرة بالشأم ، وجعلهم ملوكها وسكانها ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) يقول : وليوطئن لهم دينهم ، يعني : ملتهم التي ارتضاها لهم ، فأمرهم بها . وقيل : وعد الله الذين آمنوا ، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله : ( ليستخلفنهم ) لأن الوعد قول يصلح فيه " أن " ، وجواب اليمين كقوله : وعدتك أن أكرمك ، ووعدتك لأكرمنك .

واختلف القراء في قراءة قوله : ( كما استخلف ) فقرأته عامة القراء ( كما استخلف ) بفتح التاء واللام ، بمعنى : كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم . وقرأ ذلك عاصم " كما استخلف " بضم التاء وكسر اللام ، على مذهب ما لم يسم فاعله .

واختلفوا أيضا في قراءة قوله : ( وليبدلنهم ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار سوى عاصم ( وليبدلنهم ) بتشديد الدال ، بمعنى : وليغيرن حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن ، والعرب تقول : قد بدل فلان إذا غيرت حاله ، ولم يأت مكان غيره ، وكذلك كل مغير عن حاله ، فهو عندهم مبدل بالتشديد . وربما قيل بالتخفيف ، وليس بالفصيح ، فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره ، فذلك بالتخفيف أبدلته فهو مبدل . وذلك كقولهم : أبدل هذا الثوب : أي جعل مكانه آخر غيره ، وقد يقال بالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت . وكان عاصم يقرؤه " وليبدلنهم " بتخفيف الدال .

والصواب من القراءة في ذلك التشديد ، على المعنى الذي وصفت قبل ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه ، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن ، وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف وجه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف ، وجاء بحال الأمن ، فخفف ذلك .

ومن الدليل على ما قلنا ، من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر ، قول أبي النجم :


عزل الأمير للأمير المبدل



[ ص: 209 ] وقوله : ( يعبدونني ) يقول : يخضعون لي بالطاعة ويتذللون لأمري ونهيي ( لا يشركون بي شيئا ) يقول : لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها ، بل يخلصون لي العبادة فيفردونها إلي دون كل ما عبد من شيء غيري ، وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدو في خوف شديد مما هم فيه من الرعب والخوف ، وما يلقون بسبب ذلك من الأذى والمكروه .

ذكر الرواية بذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) . . الآية ، قال : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرا وعلانية ، قال : ثم أمر بالهجرة إلى المدينة . قال : فمكث بها هو وأصحابه خائفون ، يصبحون في السلاح ، ويمسون فيه ، فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع عنا السلاح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا فيه ، ليس فيه حديدة " . فأنزل الله هذه الآية ( وعد الله الذين آمنوا منكم ) . . إلى قوله : ( فمن كفر بعد ذلك ) " قال : يقول : من كفر بهذه النعمة ( فأولئك هم الفاسقون ) وليس يعني الكفر بالله . قال : فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا ، ثم تجبروا ، فغير الله ما بهم ، وكفروا بهذه النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم ، قال القاسم : قال أبو علي : بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه .

واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله : ( فمن كفر بعد ذلك ) فقال أبو العالية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله .

وروي عن حذيفة في ذلك ما حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، [ ص: 210 ] عن حبيب بن أبي الشعثاء ، قال : كنت جالسا مع حذيفة وعبد الله بن مسعود ، فقال حذيفة : ذهب النفاق ، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان ، قال : فضحك عبد الله ، فقال : لم تقول ذلك؟ قال : علمت ذلك ، قال : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) . . حتى بلغ آخرها .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي الشعثاء ، قال : قعدت إلى ابن مسعود وحذيفة ، فقال حذيفة : ذهب النفاق فلا نفاق ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان ، فقال عبد الله : تعلم ما تقول؟ قال : فتلا هذه الآية ( إنما كان قول المؤمنين ) . . حتى بلغ : ( فأولئك هم الفاسقون ) قال : فضحك عبد الله ، قال : فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أي شيء ضحك عبد الله؟ قال : لا أدري ، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يعجبه ، وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه ، فمن أي شيء ضحك؟ لا أدري . والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية ، أنه منعم به عليهم ، ثم قال عقيب ذلك : فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك ( فأولئك هم الفاسقون ) .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) قال : تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) قال : لا يخافون غيري .

التالي السابق


الخدمات العلمية