الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ما كان محمد أبا أحد من رجالكم رد لمنشأ خشيته صلى الله عليه وسلم الناس المعاتب عليها بقوله تعالى: وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وهو قولهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام تزوج زوجة ابنه زيد بنفي كون زيد ابنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبا [ ص: 30 ] إن شاء الله تعالى، والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو على ما في القاموس الذكر إذا احتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد، وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [النساء: 7] وقوله سبحانه: وإن كان رجل يورث كلالة [النساء: 12] ونحو قوله عليه الصلاة والسلام: «فلأولى رجل ذكر».

                                                                                                                                                                                                                                      والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف، وقد يذكر لتأييد الأول قوله تعالى: والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان [النساء: 98] فإن الرجال فيه للبالغين، وفيه بحث، نعم ظاهر كلام الزمخشري -وهو إمام له قدم راسخة في اللغة وغيرها من العلوم العربية- يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ، وأيا ما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولاد فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم، وإن أريد بهم الذكور مطلقا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم الذين ولدتموهم مطلقا كبارا كانوا أو صغارا.

                                                                                                                                                                                                                                      والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من اللغويين، والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الإرث ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفي كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة، ومن المعلوم أن زيدا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا له مطلقا، أما كونه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه، ومثله كونه عليه الصلاة والسلام ليس أبا له بالرضاع، وأما كونه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه الصلاة والسلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعا على شرائط، منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد كان معروف النسب فيما بينهم، وقد تقدم لك أنه ابن حارثة ، وتعميم نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل نفي الأبوة بالولادة الأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه لا كلام في انتفاء الأوليين، وإنما الكلام في انتفاء الأخيرة فقط إذ هي التي يزعمها من يقول: تزوج محمد عليه الصلاة والسلام زوجة ابنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب أحكام الأبوة الحقيقية عليها بنظم ما خفي في سلك ما لا خفاء فيه أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه ما كان محمد أبا أحد من رجالكم دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو ما كان محمد أبا أحد منكم، ولعله لهذا أيضا صرح بنفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام، ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام ليعلم نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم، ويؤتى بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل إشكال في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد ليرد به على من يعترض على النبي صلى الله عليه وسلم بتزوجه مطلقته، فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أنه هو المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلى الله عليه وسلم كان أبا زيد بالولادة، وإن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام كان [ ص: 31 ] أبا لزيد مجازا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعى بابن محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: ادعوهم لآبائهم [الأحزاب: 5] فدعوه حينئذ بابن حارثة، ووجه انحلاله بما ذكرنا من أن المراد بالأبوة الأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير متحققة في زيد ، أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر، وأما عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت، وبجعل إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولادة يندفع استشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة والسلام قد ولد له عدة ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة والسلام ليس مضافا للمخاطبين باعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم باعتباره، ومن خص الرجال بالبالغين قال: لا ينتقض العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة والسلام مات صغيرا ولم يبلغ مبلغ الرجال، وقيل: لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له ابن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت على ما نقل عن ابن الأثير في تاريخ الكامل السنة الخامسة من الهجرة من الهجرة، وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب، ومن ولد له صلى الله عليه وسلم من الذكور ممن عدا إبراهيم فإنما ولد بمكة قبل الهجرة وتوفي فيها، وإبراهيم وإن ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودا يوم النزول بل بعده، وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      وكما استشكل النفي بما ذكر استشكل بالحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أبا لهما حقيقة شرعية، ولم يرتض بعضهم هنا الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين باعتبار الولادة لدخول علي كرم الله تعالى وجهه فيهم وهما ولداه، وارتضاه آخر بناء على أن الإضافة للاختصاص باعتبار الولادة ولا اختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم باعتبارها لما أنهما ولدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا لكن بالواسطة، فإن قبل هذا فذاك وإلا فالجواب، أما ما قيل من أن المراد بالرجال البالغون ولم يكونا رضي الله تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن الحسن رضي الله تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة، والحسين رضي الله تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان وقد علقت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفا، وأما ما قيل من أن المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباهما كذلك فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ليس المراد من الآية سوى نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة عن نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع وعن إثباتها، فلا سؤال بمن ولد له صلى الله عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي الله تعالى عنهم ولا جواب، وإلى اختيار هذا يميل كلام أبي حيان، والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يقال للنبي عليه الصلاة والسلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة، ثم قال: ونص الشافعي - عليه الرحمة - على أنه يجوز أن يقال له صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها، وقال الراغب بعد أن قال الأب الوالد ما نصه: ويسمى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمي النبي صلى الله عليه وسلم أبا المؤمنين قال الله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [الأحزاب: 6] وفي بعض القراءات «وهو أب لهم». وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة» وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: [ ص: 32 ] «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» اه، فلا تغفل.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى جواز الإطلاق قالوا: إن قوله تعالى: ولكن رسول الله استدراك من نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه صلى الله عليه وسلم أبا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلى الله عليه وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه - عليه الصلاة والسلام - فإن كل رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك، وحاصله أنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة من جانبه صلى الله عليه وسلم وقيل في توجيه الاستدراك أيضا إنه لما نفيت أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم مع اشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل: إن لوطا عليه السلام عنى بقوله: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم [هود: 78] المؤمنات من أمته، يتوهم نفي رسالته صلى الله عليه وسلم بناء على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فاستدرك بإثبات الرسالة تنبيها على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر، وأما قوله سبحانه وخاتم النبيين فقد قيل إنه جيء به ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلى الله عليه وسلم فيفيد أن أبوته عليه الصلاة والسلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى: ولكن رسول الله أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسل عليهم السلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول ربما لا يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها اتكالا على من يأتي بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه، وقيل: إنه جيء به للإشارة إلى امتداد تلك الأبوة المشار إليها بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم بحيث تثبت بينه وبينه حرمة المصاهرة ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم احترامه وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل، وقيل: إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى: من رجالكم من أنه صلى الله عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله الذين ولدوا منه عليه الصلاة والسلام بأن يولد له ذكر فيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال، وذلك لأن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حتى يبلغ لأنه لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا فلا يكون هو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي الله تعالى عنهما، ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس قال: كان إبراهيم - يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم- قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء عليهم السلام، وجاء نحوه في روايات أخر.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات صغيرا، ولو قضى بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي نبي ما مات ابنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [ ص: 33 ] «إن له مرضعا في الجنة، ولو عاش لكان صديقا نبيا، ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي»

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة، وقال: إنه غريب، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روي عن بعض المتقدمين: لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم، ومثله ابن عبد البر فقد قال في التمهيد: لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السلام غير نبي، ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من نوح عليه السلام، وأنا أقول: لا يظن بالصحابي الهجوم على الأخبار عن مثل هذا الأمر بالظن، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام، لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيا لا لكونه ابن النبي صلى الله عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم و الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام: 124] وحينئذ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه: لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا، منع ظاهر، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير إبراهيم ولا يكون نبيا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى لو عاش.

                                                                                                                                                                                                                                      وقول بعض الأفاضل: ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن الله سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكرمهم عليه وأفضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف الله تعالى له وأفضليته عنده ذلك، ليس بشيء لأنا نقول: لا يلزم من إكرام الله تعالى بعض رسله عليهم السلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلى الله عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤوا، ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: إنه عوض صلى الله عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

                                                                                                                                                                                                                                      قلنا: فلم لا يجوز أن يبقي سبحانه له عليه الصلاة والسلام أولادا ذكورا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة، وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى، وقيل: الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلا بد من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة والسلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم نبوتهم، ولا يقدح فيه قوله تعالى: رسول الله كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلى الله عليه وسلم وهي تنافي رسالته، أو بعده وهي تنافي [ ص: 34 ] خاتميته اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أن الملازمة في قوله: ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى، ممنوعة، والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما ذكرناه أولا، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى، وقيل في توجيه الاستدراك: إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا يبقى حكمه صلى الله عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المتأخرين: يجوز أن لا يكون الاستدراك ب لكن هنا بمعنى رفع التوهم الناشئ من أول الكلام كما في قولك: ما زيد كريما لكن شجاعا بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو: ما هذا ساكنا لكن متحركا، وما هذا أبيض لكن أسود، وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين [الأعراف: 67] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكا بالمعنى الأول، اه فليتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في (فتاواه الحديثية) : إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السلام، ثم نقل عن السبكي كلاما في حديث: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسلام قد تكون من قبل آدم آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيا، ثم قال: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره، اه وفيه بحث.

                                                                                                                                                                                                                                      وخبر أنه عليه الصلاة والسلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي» في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله.

                                                                                                                                                                                                                                      والخاتم اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين، وقال المبرد : «خاتم» فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين ف (النبيين) منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك، وقرأ الجمهور «وخاتم» بكسر التاء على أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين، والمراد به آخرهم أيضا، وفي حرف ابن مسعود : ولكن نبيا ختم النبيين، والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين، والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان لأنه كان نبيا قبل تحلي نبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة، ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السلام على القول بنبوته وبقائه، ثم إنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها قال لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلا وفرعا فلا يكون إليه عليه السلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنة، وهو عليه السلام لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في قوله [ ص: 35 ] صلى الله عليه وسلم : «إن عيسى ينزل حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية»

                                                                                                                                                                                                                                      فنزوله عليه السلام غاية لإقرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام، لا نسخ لها، قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في (هداية المريد لجوهرة التوحيد)، وقوله: إنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنه بحال لكنه لا يتعبد بها الخ، أحسن من قول الخفاجي: الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلى الله عليه وسلم انسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذا لم يتقدم لإمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه - عليه السلام - فمعاذ الله أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع، فهو عليه السلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضا، وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد، فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكما، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في (البحور الزاخرة) وهو الذي أميل له، وأما أنه يجتهد ناظرا في الكتاب والسنة، فبعيد وإن كان عليه السلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنة على الوجه المعروف.

                                                                                                                                                                                                                                      نعم لا يبعد أن يكون عليه السلام قد علم في السماء بعضا ووكل إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة في بعض آخر، وقيل: إنه عليه السلام يأخذ الأحكام من نبينا صلى الله عليه وسلم شفاها بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسلام، وأيد بحديث أبي يعلى: «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه» .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في(طبقات الأولياء) : قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجم، كيف أتكلم على فصحاء، بغداد فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فارتج علي فرأيت عليا كرم الله تعالى وجهه قائما بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد ارتج علي، فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستا فقلت: لم لا تكملها سبعا، قال: أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توارى عني، فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع، وقال أيضا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى (النهر ملكي) : كان كثير الرؤية لرسول الله عليه [ ص: 36 ] الصلاة والسلام يقظة ومناما فكان يقال: إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن: يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في (لطائف المنن) : قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالا وبلادا فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي (تنوير الحلك) لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي»، وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة ، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل: المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره، وقيل: المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك، ولا يرد عليه ما ذكر، وقيل: المراد بمن من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون الخبر مبشرا له بأنه لا بد أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري : هذا الحديث يدل على أن من يراه صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة، وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسلام أو هذا كان في حياته، وهل ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته عليه الصلاة والسلام، اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم فمتعسف، وأطال الكلام في ذلك ثم قال: وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص، انتهى المراد منه، ثم إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم: المرئي ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بجسمه وروحه، وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي، فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.

                                                                                                                                                                                                                                      وفصل القاضي أبو بكر بن العربي، فقال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه: فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع [ ص: 37 ] كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة والسلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال اه، وذهب - رحمه الله تعالى - إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارا كثيرة تشهد له.

                                                                                                                                                                                                                                      منها ما أخرجه ابن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا» .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين: وروي أكثر من يومين.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية، والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسلام التي هي أكمل الأرواح تجردا وتقدسا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها، ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد، وعلى ما ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ صفي الدين بن أبي منصور والشيخ عبد الغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمان واحد في أقطار متباعدة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      كالشمس في كبد السماء وضوءها يغشي البلاد مشارقا ومغاربا



                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا باتباع الشريعة قدر شعيرة، ومتى قويت المناسبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوة الجمعية حينئذ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلى الله عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلى الله عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وآخر مظان تحققها وقت الموت.

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه، وإن كانت في الآخرة فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ، ثم إن الخبر [ ص: 38 ] المذكور فيما مر مذكور في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي».

                                                                                                                                                                                                                                      فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة والسلام قال: فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت، وإن كان الواقع لكأنما رآني فهو كقوله صلى الله عليه وسلم في خبر آخر: «فقد رآني»، وفي آخر أيضا: «فقد رأى الحق»، والمعنى أن رؤياه صحيحة، وما تقدم من أن الأنبياء عليهم السلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأرواحهم كما هو الظاهر ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به، والخبر السابق الذي أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم عن أنس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا» قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله تعالى عنه، وقال فيه ابن حبان : هو باطل والخشني منكر الحديث جدا يروي عن الثقات ما لا أصل له.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الميزان عن الدارقطني : الخشني متروك ومن ثم حكم ابن الجوزي بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث، والحديث بتمامه عند الطبراني : «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره».

                                                                                                                                                                                                                                      وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتا كسائر الأموات أكثر من أربعين صباحا بل ترد إليه روحه ويكون حيا، وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين، والحياة في القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم السلام، وقد ألف البيهقي جزءا في حياتهم في قبورهم وأورد فيه عدة أخبار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج المنازعة في وصفه وبلوغه بما له من الشواهد درجة الحسن، والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة في القبر بضرب من التأويل، والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير، وحياة نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وخبر: «ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد عليه السلام» ، محمول على إثبات إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها، ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم، وربما يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس، ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح، كما قال الهيثمي مرفوعا: إن موسى نقل يوسف من قبره بمصر، ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي عليه الصلاة والسلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما [ ص: 39 ] وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه، ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول صلى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه؟ وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك، فهل بلغك أنه عليه الصلاة والسلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها؟ وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه صلى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه؟ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك، وظهوره عند باب مسجد قباء - كما يحكيه بعض الشيعة - افتراء محض وبهت بحت، وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام، وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن معنى أن أقول: كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول: إنهم إنما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة، فقالوا: رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول: إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام، وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع، فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلى الله عليه وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وربما يدعى أنه عليه الصلاة والسلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره، كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة، وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة والسلام وملاحظة أنه كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر، مشكل فاطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة والسلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه وهو من الشريعة حال اجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك، واجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 40 ] أخرج ابن عدي عن أنس : «بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه، قالوا: نعم، قال: ذلك عيسى ابن مريم سلم علي».

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية ابن عساكر عنه: «كنت أطوف مع النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره، قلنا: يا رسول الله صافحت شيئا ولا نراه، قال: ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه».

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا عد عليه السلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: إنه عليه السلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عز وجل، وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة، وقد دل قوله تعالى: وخاتم النبيين على انقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه، ومجرد الاجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة، ومن توهم استدعاءه إياها فقد حاد- كما قال اللقاني- عن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السلام مريم وأم موسى في قول ورجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وبلغته أن الله عز وجل يحبه كحبه لأخيه فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال: قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى بمحامد لم يحمده بها أحد، فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير، اغفر لي ما مضى من ذنوبي واعصمني فيما بقي من عمري وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب علي فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه فقال: ذاك جبريل عليه السلام. والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه، وكفى دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت: 30] الآية، فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس: إن ذلك يستدعي النبوة، وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى، وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه، قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) أثناء الكلام على مدح أولئك السادة: ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه (قانون التأويل) : ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم واطلع على أرواح الأنبياء والملائكة، وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة اه.

                                                                                                                                                                                                                                      ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال: إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب، والظاهر من كلامهم أن الاجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنة مانع كبير عن ذلك، ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم على حتى اكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد، ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنة كاذب لا ينبغي أن يصغى إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور، ثم إنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه [ ص: 41 ] ملكا متى خالف ما ألقاه وأتى به الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومثله فيما أرى التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة، فقد أخرج مسلم عن مطرف أيضا من وجه آخر قال: بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني محدثك فإن عشت فاكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سلم علي، وفي رواية الحاكم في المستدرك: اعلم يا مطرف أنه كان يسلم علي الملائكة عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجرة فلما اكتويت ذهب ذلك قال: فلما برأ كلمه، قال: اعلم يا مطرف أنه عاد إلي الذي كنت أكتم علي حتى أموت، وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه من الإيهام القبيح وهو إيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين المسلمين، وأطلق بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة الأطهار وهم رضي الله تعالى عنهم بمعزل عن قبول قول أولئك الأشرار.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد روي أن سديرا الصيرفي سأل جعفرا الصادق رضي الله تعالى عنه فقال: جعلت فداك، إن شيعتكم اختلفت فيكم فأكثرت حتى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني الله تعالى فداك؟ قال: لا تأخذ بشيء مما يقولون يا سدير نحن حجج الله تعالى وأمناؤه على خلقه حلالنا من كتاب الله تعالى وحرامنا منه، حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول تفسيره (مفاتيح الأسرار)، وقد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول، وقد كاد يتمكن عرقهم في العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم - نصره الله تعالى - وشتت شملهم وغضب عليهم رضي الله تعالى عنه وأفسد عملهم فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ودفع عنه في الدارين ضيما وضيرا، وادعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السلام بعد نزوله، وقد سئل عن ذلك ابن حجر الهيثمي فقال: نعم يوحى إليه عليه السلام وحيا حقيقيا، كما في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وفي رواية صحيحة: «فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور، وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام إذ هو السفير بين الله تعالى وأنبيائه». لا يعرف ذلك لغيره، وخبر (لا وحي بعدي) باطل، وما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو لا أصل له، ويرده خبر الطبراني : ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ، فإني أخاف أن يتوفى، وما يحضره جبريل عليه السلام فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله تعالى وهو على طهارة اه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل من نفى الوحي عنه عليه السلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه، فتأمل. وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب وصدعت به السنة وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن السنة ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا بناه فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»، وصح عن جابر مرفوعا نحو هذا، وكذا عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم، وللشيخ محيي الدين بن عربي [ ص: 42 ] قدس سره كلام في حديث اللبنة قد انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنة، والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة.

                                                                                                                                                                                                                                      ونصب ( رسول ) على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا، وجوز أن يكون النصب بالعطف على أبا أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولكن» بالتشديد فنصب رسول على أنه اسم لكن، والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو، أي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الزمخشري : تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه، أي لم يعش له ولد ذكر، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل، ومما جاء في لكن قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي     ولكن زنجيا عظيم المشافر



                                                                                                                                                                                                                                      أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت، وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة بتخفيف «لكن» ورفع «رسول» و «خاتم» أي ولكن هو رسول الله إلخ كما قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      ولست الشاعر السفاف فيهم     ولكن مدرة الحرب العوالي



                                                                                                                                                                                                                                      أي ولكن أنا مدرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الله بكل شيء أعم من أن يكون موجودا أو معدوما عليما فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية