الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ثبتت حكمته بما نشاهد من محكم الأفعال وصائب الأقوال، فثبت بذلك علمه لأن الحكمة لا تكون إلا بالعلم، وكان الرب الرحيم العليم لا تكمل ربوبيته إلا بالملك الظاهر والأيالة القاهرة التي لا شوب فيها، ثبت البعث الذي هو محط الحكمة وموضع ظهور العدل، فكانت نتيجة ذلك: فالله يأتي بالساعة لما ثبت من برهانها كما ترون، فعطف عليه قوله: وقال الذين كفروا أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة: لا تأتينا الساعة والإخبار عنها باطل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما تقدم من الأدلة ما لا يرتاب معه، أمره أن يجيبهم برد كلامهم مؤكدا بالقسم على أنه لم يخله من دليل ظاهر فقال: قل بلى وربي أي المحسن إلي بما عمني به معكم من النعم، وبما خصني به من تنبئتي وإرسالي إليكم - إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو سبحانه، فهو أكرم من أن يدعكم من غير أن يحشركم لينتقم لي منكم، ويقر عيني بما يجازيكم به من أذاكم لي ولمن اتبعني، فإنه لا يكون سيد قط يرضى أن يبغي بعض عصاة عبيده على بعض، ويدعهم سدى من غير تأديب، فكيف إذا كان المبغي عليه مطيعا له، والباغي عاصيا عليه، هذا ما لا يرضاه عاقل فكيف بحاكم فكيف بأحكم الحاكمين؟ لتأتينكم أي [ ص: 445 ] الساعة لتظهر فيها ظهورا تاما الحكمة بالعدل والفضل، وغير ذلك من عجائب الحكم [والفصل].

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الحاكم لا يهمل رعيته إلا إذا غابوا من علمه، ولا يهمل شيئا من أحوالهم إلا إذا غاب عنه ذلك الشيء، وكانت الساعة من عالم الغيب، وكان ما تقدم من إثبات العلم ربما خصه متعنت بعالم الشهادة، وصف ذاته الأقدس سبحانه بما بين أنه لا فرق عنده بين الغيب الذي الساعة منه والشهادة، بل الكل عنده شهادة، وللعناية بهذا المعنى يقدم الغيب إذا جمعا في الذكر، فقال مبينا عظمة المقسم به ليفيد حقية المقسم عليه لأن القسم بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كان [في] الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، واصفا له على قراءة الجماعة ومستأنفا، - وهو أبلغ - على قراءة المدنيين وابن عامر ورويس عن يعقوب بالرفع: عالم الغيب وقراءة حمزة والكسائي "علام" بصيغة المبالغة كما هو أليق بالموضع.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كنا لقصور علمنا متقيدين بما في هذا الكون مع أن الكلام فيه، [ ص: 446 ] قال مصرحا بالمقصود على أتم وجه: لا يعزب أي يغيب ويبعد عزوبا قويا - على قراءة الجماعة بالضم - ولا ضعيفا - على قراءة الكسائي بالكسر - عنه مثقال ذرة أي من ذات ولا معنى، والذرة نملة حمراء صغيرة جدا صارت مثلا في أقل القليل فهي كناية عنه. ولما كان في هذه السورة السباق للحمد، وهو الكمال وجهة العلو به أوفق ولأمر الساعة ومبدأه منها بدأ بها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان قد بين علمه بأمور السماء، وكان المراد بها الجنس، جمع هنا تصريحا بذلك المراد فقال: في السماوات وأكد النفي بتكرير "لا" فقال: ولا في الأرض ولما كنا مقيدين بالكتاب، ابتدأ الخبر بما يبهر العقل من أن كل شيء مسطور من قبل كونه ثم يكون على وفق ما سطر، فإذا كشف للملائكة عن ذلك ازدادوا إيمانا وتسبيحا وتحميدا وتقديسا، فقال - عند جميع القراء عاطفا على الجملة من أصلها [لا] على المثقال لأن الاستثناء يمنعه: ولا أصغر أي ولا يكون شيء أصغر من ذلك أي المثقال ولا أكبر أي من المثقال فما فوقه إلا في كتاب وإخبارنا به لما جرت به عوائدنا من تقييد العلم بالكتاب، وأما هو سبحانه فغني عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإنسان قد يكتب الشيء ثم يغيب عنه وينسى مكانه [ ص: 447 ] فيعجز في استخراجه أخبر أن كتابه على خلاف ذلك، بل هو حيث لا يكشف من يريد إطلاعه عليه شيئا إلا وجده في الحال فقال: مبين ويجوز - ولعله أحسن - إذا تأملت هذه مع آية يونس أن يعطف على مثقال، ويكون الاستثناء منقطعا، ولكن على بابها في كونها بين متنافيين، فإن المعنى أنه لا يغيب ولا يبعد عنه شيء من ذلك لكنه محفوظ أتم حفظ في كتاب لا يراد منه كشف عن شيء إلا كان له في غاية الإبانة، ولعله عبر بأداة المتصل إشارة إلى أنه إن كان هناك عزوب فهو على هذه الصفة التي هي في غاية البعد عن العزوب،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية