الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر، دل على ذلك بقوله: فأعرضوا ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم، بينه بقوله: فأرسلنا ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال: عليهم سيل العرم أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة، وهي الشدة والقوة، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به، قال أبو حيان : سلط الله عليهم الجرذ [ ص: 479 ] فارا أعمى توالد فيه، ويسمى الخلد، فخرفه شيئا بعد شيء، فأرسل الله سيلا في ذلك الوادي، فحمل ذلك السد فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنان وكثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار. ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا: تفرقوا أيدي سبا [وأيادي سبا]، والأوس والخزرج منهم، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبدلناهم بجنتيهم أي جعلنا لهم بدلهما جنتين هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم، ولذلك فسرهما بقوله إعلاما بأن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم: ذواتي أكل أي ثمر خمط وقراءة الجماعة بتنوين أكل أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الخمط مشتركا بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب، والله أعلم بما أراد منه، لأنه ضرب من الأراك، له ثمر يؤكل، وكل شجرة مرة ذات شوك، والحامض أو المر من كل شيء، وكل نبت [ ص: 480 ] أخذ طعما من مرارة حتى لا يؤكل، و [لا] يمكن أكله، وثمر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به، والحمل القليل من كل شجر، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال: وأثل أي [و] ذواتي أثل، وهو شجر لا ثمر له، نوع من الطرفاء، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال: وشيء من سدر أي نبق قليل وهذا يدل على أن غير السدر و [هو] ما لا منفعة فيه أو منفعته مشوبة بكدر أكثر من السدر; وقال أبو حيان : إن الفراء فسر هذا السدر بالسمر، قال: وقال الأزهري: السدر سدران: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول، وله ثمرة عفصة لا تؤكل، وهذا الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه الغسول يشبه العناب. وقد سبق الوعد في البقرة ببيان مطلب ما يفيده دخول الجار مع مادة "بدل" فإن الحال يفترق فيها بين الإبدال والتبديل والاستبدال والتبدل وغير ذلك، وهي كثرة الدور مشتبهة الأمر، وقد حققها شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بالديار المصرية [ ص: 481 ] شمس الدين محمد بن علي القاياتي رحمه الله فقال فيما علقته عنه وذكر أكثره في شرحه لخطبة المنهاج للنووي رحمه الله: اعلم أن هذه المادة - أعني الباء والدال واللام - مع هذا الترتيب قد يذكر معها المتقابلان فقط وقد يذكر معهما غيرهما وقد لا يكون كذلك فإن اقتصر عليهما فقد يذكران مع التبدل والاستبدال مصحوبا أحدهما بالباء كما في قوله تعالى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وفي قوله تعالى: ومن يتبدل الكفر بالإيمان الآية، فتكون الباء داخلة على المتروك ويتعدى الفعل بنفسه للمقابل المتخذ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال وأحدهما مقرون بالباء، فالباء داخلة على الحاصل، ويتعدى الفعل بنفسه إلى المتروك، نقل الأزهري عن ثعلب: بدلت الخاتم بالحلقة - إذا أذبته وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم - إذا أذبتها وجعلتها خاتما، وأبدلت الخاتم بالحلقة - إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه، وحكى الهروي في الغريبين عن ابن عرفة يعني نفطويه أنه قال: التبديل: تغيير الشيء عن حاله والإبدال: جعل الشيء مكان آخر وتحقيقه أن معنى التبديل التغيير وإن لم يؤت ببدل كما ذكر في الصحاح [ ص: 482 ] وكما هو مقتضى كلام ابن عرفة، فحيث ذكر المتقابلان وقيل: "بدلت هذا بذاك" رجع حاصل ذلك أنك أخذت ذاك وأعطيت هذا، فإذا قيل: بدل الشيء بغيره، فمعناه غير الشيء بغيره، أي ترك الأول وأخذ الثاني، فكانت الباء داخلة على المأخوذ لا المنحى، ومعنى إبدال الشيء بغيره يرجع إلى تنحية الشيء وجعل غيره مكانه، فكانت الباء داخلة على المتخذ مكان المنحى، وللتبديل ولو مع الاقتصار على المتقابلين استعمال آخر، يتعدى إلى المفعولين بنفسه كقوله تعالى فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة الآية بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا وقد لا يذكر المذهوب كما في قوله تعالى: بدلناهم جلودا غيرها ومعنى التبدل والاستبدال أخذ الشيء مكان غيره، فإذا قلت: استبدلت هذا بذاك، أو تبدلت هذا بذاك، رجع حاصل ذلك أنك أخذت هذا وتركت ذاك، وإن لم يقتصر عليهما بل ذكر معهما غيرهما وأحدهما مصحوب بالجار وذكر التبديل كما في قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين [ ص: 483 ] تعدى الفعل بنفسه إلى المفعولين يعني إلى المفعول ذلك لأجله وإلى المأخوذ بنفسه، وإلى المذهوب المبدل منه بالباء كما في "بدله بخوفه أمنا" ومعناه: أزال خوفه إلى الأمن وقد يتعدى إلى المذهوب والحالة هذه - بمن كما في "بدله من خوفه أمنا" وللتبديل أيضا استعمال آخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل: بدلت الشيء أي غيرته، قال تعالى فمن بدله بعدما سمعه على أن ههنا ما يجب التنبه له وهو أن الشيء يكون مأخوذا بالقياس والإضافة إلى شيء، متروكا بالقياس والإضافة إلى آخر، كما إذا أعطى شخص شخصا شيئا وأخذ بدله منه، فالشيء الأول مأخوذ للشخص الثاني ومتروك للأول، والمقابل بالعكس فيصح أن يعبر بالتبدل والتبديل، ويعتبر في كل منهما ما يناسبه، والإشكال المقام قصدنا بعض الإطناب. انتهى، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية