الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى

قوله تعالى : " كلا " تقدم القول في " كلا " وأنها تكون بمعنى حقا ، وبمعنى لا . وهي هنا تحتمل الأمرين ; فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام " ينجيه " . وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها ; أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ، ثم قال :

إنها لظى أي هي جهنم ; أي تتلظى نيرانها ; كقوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى واشتقاق لظى من التلظي . والتظاء النار التهابها ، وتلظيها تلهبها . وقيل : كان أصلها " لظظ " أي ما دامت لدوام عذابها ; فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى . وقيل : هي الدركة الثانية من طبقات جهنم . وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف .

نزاعة للشوى قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي " نزاعة " بالرفع . وروى أبو عمرو عن عاصم " نزاعة " بالنصب . فمن رفع فله خمسة أوجه : أحدها أن تجعل " لظى " خبر إن وترفع " نزاعة " بإضمار هي ; فمن هذا الوجه يحسن الوقف على " لظى " . والوجه [ ص: 264 ] الثاني أن تكون " لظى " و " نزاعة " خبران لإن . كما تقول : إنه خلق مخاصم . والوجه الثالث أن تكون " نزاعة " بدلا من " لظى " و " لظى " خبر إن . والوجه الرابع أن تكون " لظى " بدلا من اسم إن و " نزاعة " خبر إن . والوجه الخامس : أن يكون الضمير في " إنها " للقصة ، " لظى " مبتدأ و " نزاعة " خبر الابتداء ، والجملة خبر إن ، والمعنى أن القصة والخبر " لظى نزاعة للشوى " ومن نصب " نزاعة " حسن له أن يقف على " لظى " وينصب " نزاعة " على القطع من " لظى " إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة . ويجوز نصبها على الحال المؤكدة ; كما قال : وهو الحق مصدقا . ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة ; أي في حال نزعها للشوى . والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي . ويجوز أن يكون حالا ; على أنه حال للمكذبين بخبرها . ويجوز نصبها على القطع ; كما تقول : مررت بزيد العاقل الفاضل . فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا . والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس . قال الأعشى :

قالت قتيلة ما له قد جللت شيبا شواته

وقال آخر :

لأصبحت هدتك الحوادث هدة     لها فشواة الرأس باد قتيرها

القتير : الشيب . وفي الصحاح : " والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس " . والشوى : اليدان والرجلان والرأس من الآدميين ، وكل ما ليس مقتلا . يقال : رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل . قال الهذلي :

فإن من القول التي لا شوى لها     إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها

يقول : إن من القول كلمة لا تشوي ، ولكن تقتل . قال الأعشى :

قالت قتيلة ما له     قد جللت شيبا شواته

قال أبو عبيد : أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له : " صحفت ! إنما هو سراته ; أي نواحيه ، فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا : بل هو صحف ، إنما هو شواته " . وشوى الفرس : قوائمه ; لأنه يقال : عبل الشوى ، ولا يكون هذا للرأس ; لأنهم وصفوا الخيل [ ص: 265 ] بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته . والشوى : رذال المال . والشوى : هو الشيء الهين اليسير . وقال ثابت البناني والحسن : نزاعة للشوى أي لمكارم وجهه . أبو العالية : لمحاسن وجهه . قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه . وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا . وقال الكسائي : هي المفاصل . وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود . قال امرؤ القيس :

سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا     له حجبات مشرفات على الفال

وقال أبو صالح : أطراف اليدين والرجلين . قال الشاعر :

إذا نظرت عرفت الفخر منها     وعينيها ولم تعرف شواها

يعني أطرافها . وقال الحسن أيضا : الشوى الهام .

تدعو من أدبر وتولى أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان . ودعاؤها أن تقول : إلي يا مشرك ، إلي يا كافر . وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إلي يا كافر ، إلي يا منافق ; ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب . وقال ثعلب : تدعو أي تهلك . تقول العرب : دعاك الله ; أي أهلكك الله . وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء " تعالوا " ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم . وقيل : الداعي خزنة جهنم ; أضيف دعاؤهم إليها . وقيل هو ضرب مثل ; أي إن مصير من أدبر وتولى إليها ; فكأنها الداعية لهم . ومثله قول الشاعر :

ولقد هبطنا الواديين فواديا     يدعو الأنيس به العضيض الأبكم

العضيض الأبكم : الذباب . وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه .

قلت : القول الأول هو الحقيقة ; حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة . القشيري : ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو ، وخوارق العادة غدا كثيرة .

وجمع فأوعى أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى ; فكان جموعا منوعا . قال الحكم : كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول : وجمع فأوعى .

التالي السابق


الخدمات العلمية