الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        114 - الحديث الرابع : عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، ولا كفارة لها إلا ذلك { أقم الصلاة لذكري } . ولمسلم { من نسي صلاة ، أو نام عنها . فكفارتها : أن يصليها إذا ذكرها } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : أنه يجب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنوم أو النسيان . وهو منطوقه . ولا خلاف فيه .

                                        الثاني : اللفظ يقتضي توجه الأمر بقضائها عند ذكرها . لأنه جعل الذكر ظرفا للمأمور به . فيتعلق الأمر بالفعل فيه . وقد قسم الأمر فيه عند بعض الفقهاء بين ما ترك عمدا . فيجب القضاء فيه على الفور . وقطع به بعض مصنفي الشافعية ، وبين ما ترك بنوم أو نسيان . فيستحب قضاؤه على الفور . ولا يجب . واستدل على عدم وجوبه على الفور في هذه الحالة { بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ - بعد فوات الصلاة بالنوم - أخر قضاءها . واقتادوا رواحلهم ، حتى خرجوا من الوادي } . وذلك دليل على جواز التأخير . وهذا يتوقف على أن لا يكون ثم مانع من المبادرة . وقد قيل : إن المانع أن الشمس كانت طالعة . فأخر القضاء حتى ترتفع ، بناء على مذهب من يمنع القضاء في هذا الوقت . ورد بذلك ( بأنها كانت صبح اليوم ، وأبو حنيفة يجيزها في هذا الوقت ، و ) بأنه جاء في الحديث " فما أيقظهم إلا حر الشمس " وذلك يكون بالارتفاع . وقد يعتقد مانع آخر ، وهو ما دل عليه الحديث ، من أن الوادي به شيطان ، وأخر ذلك للخروج عنه . ولا شك أن هذا علة للتأخير والخروج ، كما دل عليه الحديث ، ولكن هل يكون ذلك مانعا ، على تقدير أن [ ص: 297 ] يكون الواجب المبادرة ؟ في هذا نظر ، ولا يمتنع أن يكون مانعا على تقدير جواز التأخير . .



                                        الثالث : قد يستدل به من يقول بأن من ذكر صلاة منسية - وهو في صلاة - أن يقطعها إذا كانت واجبة الترتيب مع التي شرع فيها . ولم يقل بذلك المالكية مطلقا . بل لهم في ذلك تفصيل مذهبي بين الفذ والإمام والمأموم ، وبين أن يكون الذكر بعد ركعة أو لا . فلا يستمر الاستدلال به مطلقا . وحيث يقال بالقطع ، فوجه الدليل منه : أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر ، ومن ضرورة ذلك : قطع ما هو فيه ، ومن أراد إخراج شيء من ذلك فعليه أن يبين مانعا من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها ، ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل . والله أعلم .

                                        الرابع : قوله عليه السلام { لا كفارة لها إلا ذلك } يحتمل أن يراد به : نفي الكفارة المالية ، كما وقع في أمور أخر . فإنه لا يكتفي فيها إلا بالإتيان بها . ويحتمل أن يراد به : أنه لا بدل لقضائها ، كما تقع الأبدال في بعض الكفارات ، ويحتمل أن يراد به : أنه لا يكفي فيها مجرد التوبة والاستغفار ، ولا بد من الإتيان بها . .



                                        الخامس : وجوب القضاء على العامد بالترك من طريق الأولى . فإنه إذا لم تقع المسامحة - مع قيام العذر بالنوم والنسيان - فلأن لا تقع مع عدم العذر أولى . وحكى القاضي عياض عن بعض المشايخ : أن قضاء العامد مستفاد من قوله عليه السلام " فليصلها إذا ذكرها " لأنه بغفلته عنها وعمده كالناسي . ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها . وهذا ضعيف . لأن قوله عليه السلام فليصلها إذا ذكرها " كلام مبني على ما قبله . وهو قوله " من نام عن صلاة أو نسيها " والضمير في قوله [ ص: 298 ] فليصلها إذا ذكرها " عائد إلى الصلاة المنسية ، أو التي يقع النوم عنها . فكيف يحمل ذلك على ضد النوم والنسيان ، وهو الذكر واليقظة ؟ نعم لو كان كلاما مبتدأ : مثل أن يقال : من ذكر صلاة فليصلها إذا ذكرها . لكان ما قيل محتملا ، على تمحل مجاز . وأما قوله " كالناسي " إن أراد به : أنه مثله في الحكم فهو دعوى ، ولو صحت لما كان ذلك مستفادا من اللفظ ، بل من القياس ، أو من مفهوم الخطاب الذي أشرنا إليه . وكذلك ما ذكر في ذلك من الاستناد إلى قوله " لا كفارة لها إلا ذلك " والكفارة إنما تكون من الذنب ، والنائم والناسي لا ذنب لهما . وإنما الذنب للعامد لا يصح أيضا لأن الكلام كله مسوق على قوله " من نام عن صلاة أو نسيها " والضمائر عائدة إليها ، فلا يجوز أن يخرج عن الإرادة . ولا أن يحمل اللفظ ما لا يحتمله . وتأويل لفظ " الكفارة " هنا أقرب وأيسر من أن يقال : إن الكلام الدال على الشيء مدلول به على ضده . فإن ذلك ممتنع . وليس ظهور لفظ " الكفارة " في الإشعار بالذنب بالظهور القوي الذي يصادم به النص الجلي ، في أن المراد : الصلاة المنسية ، أو التي وقع النوم عنها ، وقد وردت كفارة القتل خطأ مع عدم الذنب ، وكفارة اليمين بالله مع استحباب الحنث في بعض المواضع ، وجواز اليمين ابتداء ولا ذنب .




                                        الخدمات العلمية