الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى قيل نزلت فيما كانت من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلى الله عليه وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام فبرأه الله مما قالوا أي من قولهم أو الذي قالوه وأيا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه، واستعمال الفعل مجازا عن إظهاره، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السلام، وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فيه فبرئ من قولهم على أن (برأه) بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لا بد من ملاحظة ما ذكر، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السلام عيب في بدنه.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة، وأن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السلام خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السلام عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السلام من قتل هارون، أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك وألين فآذوه من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السلام بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون [ ص: 95 ] وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ما نسبوه إليه عليه السلام من الزنا وحاشاه، روي أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها ودفع إليها مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص، ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع الموصول.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ما نسبوا إليه من السحر والجنون، وقيل: ما حكي عنهم في القرآن من قولهم: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [المائدة: 24] لن نصبر على طعام واحد [البقرة: 61] وقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [البقرة: 55] إلى غير ذلك، ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان عند الله وجيها أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عز وجل، وفي معناه قول قطرب: كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد : كان مقبولا، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر، وقيل: وجاهته عليه السلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبدا» من العبودة «لله» بلام الجر فيكون عبدا خبر كان و (وجيها) صفة له وهي قراءة شاذة، وفي صحة القراءة بالشواذ كلام.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان «عبدا لله» على قراءة ابن مسعود ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقا، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه، وإلا فقد قال الطيبي قال صاحب الروضة: وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان، وهاهنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ، ونحوه عن ابن جني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية