الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم يبق بعد هذا إلا أن يقولوا عنادا: أنت ضال، ليس بك جنون ولا كذب، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن المحجة، قال: قل أي لهؤلاء المعاندين على سبيل الاستعطاف بما في قولك من الإنصاف وتعليم الأدب: إن ضللت أي عن الطريق على سبيل الفرض فإنما أضل ولما كان الله تعالى قد جعل العقل عقلا يمنع من الخطأ وينهى عن الهوى، وكان الغلط لا يأتي إلا من شواغل النفس بشهواتها وحظوظها، فكان التقدير: بما في نفسي من الشواغل العاقلة للعقل، قال مشيرا إلى ذلك: على نفسي أي لأن الضلال إذا استعلى على شيء ظهر أمره فيتبين عواره فيلزم عاره، ويصير صاحبه بحيث لا يدري شيئا ينفع ولا يعيد، ولذلك يصير يفزع إلى السفه والمشاتمة كما وقع في مذاهبكم كلها، لأن الله تعالى جعل العقول الصحيحة معيارا على ذلك، فمهما ذكرت طرق [الحق] وحررت ظهر أمر الباطل وافتضح. [ولما كانت النفس منقادة بل مترامية نحو الباطل، عبر في الضلال بالمجرد، وفي الهدى بالافتعال إشارة إلى أنه لا بد [ ص: 535 ] فيه من هاد وعلاج، وعبر بأداة الشك استعمالا للإنصاف فقال]: وإن اهتديت فبما أي فاهتدائي إنما هو بما يوحي إلي ربي أي المحسن إلي لا بغيره، فلا يمكن فيه ضلال لأنه لا حظ فيه للنفس أصلا، فلا يقدر أحد على شيء من طعن في شيء منه، وهداي لنفسي، فالآية ظاهرها التنزل منه وباطنها إرشادهم إلى تسديدهم النظر وتقويمه وتهذيب الفكر وتثقيفه، وهي من الاحتباك: حذف أولا كون الضلال من نفسه بما دل [عليه] ثانيا من أن الهدى من الوحي [وثانيا] كون الهدى له بما دل عليه من كون الضلال عليه ثم علل الضلال والهدى بقوله: إنه أي ربي سميع قريب أي لا يغيب عنه شيء من حال من يكذب عليه، فهو جدير بأنه يفضحه كما فضحكم في جميع ما تدعونه ولا يبعد عليه شيء ليحتاج في إدراكه إلى تأخير لقطع مسافة أو نحوها، بل هو مدرك لكل ما أراد كلما أراد، والآية إرشاد من الله تعالى إلى أنه وإن كان خلق للآدمي عقلا لا يضل ولا يزيغ، لكنه حفه بقواطع من الشهوات والحظوظ والكسل والفتور فلا يكاد يسلم منها إلا من عصمه الله، فلما كان كذلك أنزل سبحانه كتبا هي العقل الخالص، وأرسل رسلا جردهم من تلك القواطع، فجعل أخلاقهم [ ص: 536 ] شرائعهم، فعلى كل أحد أن يتبع رسله المتخلفين بكتبه متهما [عقله منابذا] رأيه كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ليكون مؤمنا بالغيب حق الإيمان فيدخل في قوله تعالى في سورة فاطر إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ولا يكون متناوشا بعد كشف الغطاء من مكان بعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية