الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( 22 ) قال فرعون وما رب العالمين ( 23 ) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ( 24 ) )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون ( وتلك نعمة تمنها علي ) يعني بقوله : وتلك ، تربية فرعون إياه ، يقول : وتربيتك إياي ، وتركك استعبادي ، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها علي بحق . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني ، فلم تستعبدني ، فترك ذكر " وتركتني " لدلالة قوله ( أن عبدت بني إسرائيل ) عليه ، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام ، ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة ، فيعاقب أحدهما ، ويعفو عن الآخر ، فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا ، وتركني ، ثم حذف " وتركني " لدلالة الكلام عليه ، ولأن في قوله : ( أن عبدت بني إسرائيل ) وجهين : أحدهما النصب ، لتعلق " تمنها " بها ، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك بني إسرائيل . والآخر : الرفع على أنها رد على النعمة . وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها علي تعبيدك بني إسرائيل . ويعني بقوله : ( أن عبدت بني إسرائيل ) : أن اتخذتهم عبيدا لك . يقال منه : عبدت العبيد وأعبدتهم ، قال الشاعر :


علام يعبدني قومي وقد كثرت فيها أباعر ما شاءوا وعبدان



وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) قال : قهرتهم واستعملتهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : [ ص: 343 ] تمن علي أن عبدت بني إسرائيل ، قال : قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) وربيتني قبل وليدا .

وقال آخرون : هذا استفهام كان من موسى لفرعون ، كأنه قال : أتمن علي أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وتلك نعمة تمنها علي ) قال : يقول موسى لفرعون : أتمن علي أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا .

واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : وتلك نعمة تمنها علي ، فيقال : هذا استفهام كأنه قال : أتمنها علي ؟ ثم فسر فقال : ( أن عبدت بني إسرائيل ) وجعله بدلا من النعمة . وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول ، ويقول : هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى ، وهو يطلب ، فيكون الاستفهام كالخبر ، قال : وقد استقبح ومعه أم ، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا :


تروح من الحي أم تبتكر     وماذا يضرك لو تنتظر ؟



قال : وقال بعضهم : هو أتروح من الحي ، وحذف الاستفهام أولا اكتفاء بأم . وقال أكثرهم : بل الأول خبر ، والثاني استفهام ، وكأن " أم " إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف ، فأما وليس معه أم ، فلم يقله إنسان .

وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا . وقال : معنى الكلام : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي : أي لنعمة تربيتي لك ، فأجابه فقال : نعم هي نعمة علي أن عبدت الناس ولم تستعبدني .

وقول ( قال فرعون وما رب العالمين ) يقول : وأي شيء رب العالمين ؟

( قال ) [ ص: 344 ] موسى هو ( رب السماوات والأرض ) ومالكهن ( وما بينهما ) يقول : ومالك ما بين السموات والأرض من شيء . ( إن كنتم موقنين ) يقول : إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه ، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو رب السموات والأرض وما بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية