الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 314 ] آ . (96) قوله تعالى : وضع للناس : هذه الجملة في موضع خفض صفة لبيت . وقرأ العامة : "وضع " مبنيا للمفعول ، وعكرمة وابن السميفع : "وضع " مبنيا للفاعل ، وفي فاعله قولان ، أظهرهما ، أنه ضمير إبراهيم لتقدم ذكره ، ولأنه مشهور بعمارته ، والثاني : أنه ضمير الباري تعالى . و "للناس " متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة ، و " للذي ببكة " خبر إن ، وأخبر هنا بالمعرفة وهو الموصول عن النكرة وهو " أول بيت " لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب إن ، ومن عبارة سيبويه : "إن قريبا منك زيد " لما تخصص "قريبا " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرته لك ، وزاده حسنا هنا كونه اسما لـ "إن " ، وقد جاءت النكرة اسما لإن وإن لم يكن تخصيص . قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1357 - وإن حراما أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم



                                                                                                                                                                                                                                      و "ببكة " صلة ، والباء فيه ظرفية أي : في مكة ، وبكة فيها أوجه ، أحدها أنها مرادفة لمكة فأبدلت ميمها باء ، قالوا : والعرب تعاقب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا علي ضربة لازم ولازب ، وهذا أمر راتب وراتم ، والنميط والنبيط ، وسبد رأسه وسمدها ، وأعبطت الحمى وأعمطت ، [ ص: 315 ] وقيل : اسم لبطن مكة ، وقيل : لمكان البيت ، وقيل : للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباك وهو الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباك الناس أي : ازدحموا . وهذا القول يفسده أن يكون الشيء ظرفا لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد لأن البيت في المسجد حقيقة ، وسميت بكة ، لازدحام الناس ، وقيل : لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها ، وسميت مكة من قولهم : "تمككت المخ من العظم " إذ استقصيته ولم تترك منه شيئا ، ومنه "امتك الفصيل ما في ضرع أمه " إذا لم يترك فيه لبنا ، وروي أنه قال : "لا تمككوا على غرمائكم " .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم في تسميتها بذلك أوجه ، فقال ابن الأنباري : "سميت بذلك لقلة مائها وزرعها وقلة خصبها ، فهي مأخوذة من " مككت العظم "إذا لم تترك فيه شيئا . وقيل : لأن من ظلم فيها مكه الله أي استقصاه بالهلاك . وقيل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم ، وهذا قول الخليل بن أحمد ، وهو حسن . والمكوك كأس يشرب به ويكال به كالصواع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : مباركا وهدى حالان : إما من المضمر في " وضع "كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر ، من حيث إنه يلزم الفصل بين الحال وبين العامل فيها بأجنبي ، وهو خبر إن ، وذلك غير جائز لأن الخبر معمول لإن ، فإن أضمرت عاملا وهو " وضع "بعد " للذي ببكة "أي و " وضع "جاز ، والذي حمل على ذلك ما يعطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وضع بهذا القيد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 316 ] والظاهر أن " وهدى " نسق على " مباركا " . وزعم بعضهم أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : وهو هدى ، وهو ساقط الاعتبار به .

                                                                                                                                                                                                                                      والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك أي : زادك خيرا ، وهو متعد ، ويدل عليه : أن بورك من ويضمن معنى [ما يتعدى ] بعلى كقوله : وباركنا عليه . و " تبارك " لا سوء ولا يستعمل مسندا إلا لله تعالى ، ومعناه في حقه تعالى : تزايد خيره وإحسانه ، وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مبرك البعير . وإما من الضمير المستكن في الجار ، وهو " ببكة " لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار بما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ، ويجوز أن ينتصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة ، وقد تقدم دلائل ذلك . و " للعالمين " كقوله : للمتقين أول البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية