الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر - سبحانه - أحد أصليهم؛ التراب المختلف الأصناف؛ ذكر الأصل الآخر؛ الماء الذي هو أشد امتزاجا من التراب؛ ذاكرا اختلاف صنفيه اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة؛ منبها على فعله بالاختيار؛ ومنكرا على من سوى بينه - سبحانه - وبين شيء؛ حتى أشركه به؛ مع المباعدة؛ التي [ ص: 24 ] لا شيء بعدها؛ والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما؛ فقال: وما يستوي البحران ؛ ولما كانت الألف واللام للعهد؛ بينه بقوله - مشيرا إلى الحلو -: هذا عذب ؛ أي: طيب؛ حلو؛ لذيذ؛ ملائم للطبع؛ فرات ؛ أي: بالغ العذوبة؛ سائغ شرابه ؛ أي: هنيء؛ مريء؛ بحيث إذا شرب جاز في الحلق؛ ولم يتوقف؛ بل يسهل إدخاله فيه؛ وابتلاعه؛ لما له من اللذة والملاءمة للطبع؛ وهذا ملح أجاج ؛ أي: جمع إلى الملوحة المرارة؛ فلا يسوغ شرابه؛ بل لو شرب لآلم الحلق؛ وأجج في البطن ما هو كالنار؛ والمراد أنه ميزهما - سبحانه - بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها؛ ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر؛ بل إذا حفر على جانب البحر الملح ظهر الماء عذبا فراتا؛ على مقدار صلاح الأرض؛ وفسادها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الملح متعذرا على الآدمي شربه؛ ذكر أنه خلق فيه ما حياته به؛ مساويا في ذلك للعذب؛ فقال: ومن كل ؛ أي: من الملح؛ والعذب؛ تأكلون ؛ من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر؛ وغير السمك؛ لحما طريا ؛ أي: شهي المطعم؛ ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله؛ ولا زاد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم. ولما ذكر [ ص: 25 ] من متاعه ما هو غاية في اللين؛ أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة؛ فقال: وتستخرجون ؛ أي: تطلبون أن تخرجوا من الملح؛ دون العذب؛ وتوجدون ذلك للإخراج؛ قال البغوي : وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به؛ فيكون اللؤلؤ من ذلك؛ حلية تلبسونها ؛ أي: نساؤكم؛ من الجواهر؛ الدر؛ والمرجان؛ وغيرهما؛ فما قضى برخاوة ذلك؛ وصلابة هذا؛ مع تولدهما منه؛ إلا الفاعل المختار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة؛ عم بالخطاب؛ ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمرا غريبا؛ لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر؛ خص بالخطاب؛ فقال: وترى الفلك ؛ أي: السفن؛ تسمى "فلكا"؛ لدورانه؛ و"سفينة" لقشره الماء؛ وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك؛ فقال: فيه ؛ أي: كل منهما؛ غاطسة إلا قليلا منها؛ ولما تم الكلام؛ ذكر حالها المعلل بالابتغاء؛ فقال: مواخر [ ص: 26 ] أي: جواري؛ مستدبرة الريح؛ شاقة للماء؛ خارقة للهواء بصدرها؛ هذه مقبلة؛ وهذه مدبرة؛ وجهها إلى ظهر هذه؛ بريح واحدة; قال البخاري ؛ في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد : تمخر السفن الريح؛ ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام; وقال صاحب القاموس: "مخرت السفينة - كـ منع" - مخرا ومخورا": جرت؛ أو استقبلت الريح في جريتها؛ و"الفلك المواخر"؛ التي يسمع صوت جريها؛ أو تشق الماء بجآجئها؛ أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة؛ وفي الحديث: "إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح"؛ وفي لفظ: "استمخروا الريح"؛ أي: اجعلوا ظهوركم إلى الريح؛ فإنه إذا ولاها شقها بظهره؛ فأخذت عن يمينه ويساره؛ وقد يكون استقبالها تمخرا؛ غير أنه في الحديث استدبار؛ انتهى كلام القاموس؛ ثم علق بالمخر - معللا - قوله: لتبتغوا ؛ أي: تطلبوا طلبا شديدا؛ ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها؛ أعاد الضمير عليه؛ ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها؛ فقال: من فضله ؛ أي: الله؛ بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة؛ للمتاجر؛ وغيرها؛ ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك؛ وفي سورة "الجاثية"؛ ما ينفع هنا؛ ولعلكم تشكرون ؛ أي: ولتكون حالكم بهذه [ ص: 27 ] النعم - الدالة على عظيم قدرة الله؛ ولطفه - حال من يرجى شكره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية