الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4283 ) فصل : فإن أمره أن يقطع الثوب قميص رجل ، فقطعه قميص امرأة ، فعليه غرم ما بين قيمته صحيحا ومقطوعا ; لأن هذا قطع غير مأذون فيه ، فأشبه ما لو قطعه من غير إذن . وقيل : يغرم ما بين قميص امرأة وقميص رجل ; لأنه مأذون في قميص في الجملة . والأول أصح ; لأن المأذون فيه قميص موصوف بصفة ، فإذا قطع قميصا غيره ، لم يكن فاعلا لما أذن فيه ، فكان متعديا بابتداء القطع ، ولذلك لا يستحق على القطع أجرا ، ولو فعل ما أمر به ، لاستحق أجره .

                                                                                                                                            ( 4284 ) فصل : وإن اختلفا ، فقال : أذنت لي في قطعه قميص امرأة . وقال : بل أذنت لك في قطعه قميص رجل . أو قال : أذنت لي في قطعه قميصا . قال : بل قباء . أو قال الصباغ : أمرتني بصبغه أحمر . قال : بل أسود . فالقول قول الخياط والصباغ . نص عليه أحمد ، في رواية ابن منصور . وهذا قول ابن أبي ليلى . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور : القول قول رب الثوب . واختلف أصحاب الشافعي ، فمنهم من قال : له قولان ، كالمذهبين

                                                                                                                                            ومنهم من قال : له قول ثالث أنهما يتحالفان ، كالمتبايعين يختلفان في الثمن . ومنهم من قال : الصحيح أن القول قول رب الثوب ; لأنهما اختلفا في صفة إذنه ، والقول قوله في أصل الإذن ، فكذلك في صفته ، ولأن الأصل عدم الإذن المختلف فيه ، فالقول قول من ينفيه . ولنا أنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته ، فكان القول قول المأذون له ، كالمضارب إذا قال : أذنت لي [ ص: 309 ] في البيع نساء . ولأنهما اتفقا على ملك الخياط القطع ، والصباغ الصبغ

                                                                                                                                            والظاهر أنه فعل ما ملكه ، واختلفا في لزوم الغرم له ، والأصل عدمه . فعلى هذا يحلف الخياط والصباغ بالله لقد أذنت لي في قطعه قباء ، وصبغه أحمر . ويسقط عنه الغرم ، ويكون له أجر مثله ; لأنه ثبت وجود فعله المأذون فيه بعوض ، ولا يستحق المسمى ; لأن المسمى ثبت بقوله ودعواه ، فلا يحنث بيمينه ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه } . أخرجه مسلم

                                                                                                                                            فأما المسمى في العقد ، فإنما يعترف رب الثوب بتسميته أجرا ، وقطعه قميصا ، وصبغه أسود . فأما من قال : القول قول رب الثوب . فإنه يحلف بالله : ما أذنت في قطعه قباء ، ولا صبغه أحمر . ويسقط عنه المسمى . ولا يجب للخياط والصباغ شيء ; لأنهما فعلا غير ما أذن لهما فيه . وذكر ابن أبي موسى ، عن أحمد ، رواية أخرى ، أن صاحب الثوب إذا لم يكن ممن يلبس الأقبية والسواد ، فالقول قوله

                                                                                                                                            وعلى الصانع غرم ما نقص بالقطع ، وضمان ما أفسد ، ولا أجر له ; لأن قرينة حال رب الثوب تدل على صدقه ، فتترجح دعواه بهما ، كما لو اختلفا في حائط لأحدهما عليه عقد أو أزج ، رجحنا دعواه بذلك . وإن اختلف الزوجان في متاع البيت ، رجحنا دعوى كل واحد منهما فيما يصلح له . ولو اختلف صانعان في الآلة التي في دكانهما ، رجحنا قول كل واحد منهما في آلة صناعته . فعلى هذا يحلف رب الثوب : ما أذنت لك في قطعه قباء

                                                                                                                                            ويكفي هذا لأنه ينتفي به الإذن ، فيصير قاطعا لغير ما أذن فيه . فإن كان القباء مخيطا بخيوط لمالكه ، لم يملك الخياط فتقه ، وكان لمالكه أخذه مخيطا بلا عوض ; لأنه عمل في ملك غيره عملا مجردا عن عين مملوكة له ، فلم يكن له إزالته ، كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى موضع ، لم يكن له رده إذا رضي صاحبه بتركه فيه . وإن كانت الخيوط للخياط ، فله نزعها ; لأنها عين ماله ، ولا يلزمه أخذ قيمتها ; لأنها ملكه ، ولا يتلف بأخذها ما له حرمة . فإن اتفقا على تعويضه عنها جاز ; لأن الحق لهما . وإن قال رب الثوب : أنا أشد في كل خيط خيطا . حتى إذا سله عاد خيط رب الثوب في مكانه ، لم يلزم الخياط الإجابة إلى ذلك ; لأنه انتفاع بملكه . وحكم الصباغ في قلع الصبغ إن أحبه ، وفي غير ذلك من أحكامه حكم صبغ الغاصب

                                                                                                                                            على ما مضى في بابه . والذي يقوى عندي ، أن القول قول رب الثوب ; لما ذكرنا في دليلهم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية