الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن خفيف

                                                                                      الشيخ الإمام العارف الفقيه القدوة ، ذو الفنون أبو عبد الله محمد بن خفيف بن اسفكشار الضبي الفارسي الشيرازي ، شيخ الصوفية .

                                                                                      ولد قبل السبعين ومائتين وستين .

                                                                                      وحدث عن حماد بن مدرك وهو آخر أصحابه ، وعن محمد بن جعفر التمار ، والحسين المحاملي ، وجماعة .

                                                                                      وتفقه على أبي العباس بن سريج .

                                                                                      حدث عنه : أبو الفضل الخزاعي ، والحسن بن حفص الأندلسي ، وإبراهيم بن الخضر الشياح ، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني ، ومحمد بن عبد الله بن باكويه .

                                                                                      قال السلمي : أقام بشيراز ، وأمه نيسابورية ، وهو اليوم شيخ المشايخ ، وتاريخ الزمان ، لم يبق للقوم أقدم منه ، ولا أتم حالا ، صحب [ ص: 343 ] رويم بن أحمد ، وابن عطاء ، ولقي الحلاج ، وهو من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر ، متمسك بالكتاب والسنة ، فقيه شافعي .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن إسحاق من لفظه ، أخبرنا عمر بن كرم ، أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد ، أخبرنا محمد بن باكويه ، حدثنا محمد بن خفيف الضبي ، قال : قرئ على حماد بن مدرك ، وأنا أسمع ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا شعبة ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صنعت قدرا فأكثر من مرقها ، وانظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم بمعروف .

                                                                                      قال أبو عبد الرحمن السلمي : قال أحمد بن يحيى الشيرازي : ما أرى التصوف إلا يختم بأبي عبد الله بن خفيف ، وكان أبو عبد الله من أولاد الأمراء فتزهد حتى قال : كنت أجمع الخرق من المزابل ، وأغسلها ، وأصلح منه ما ألبسه ، وبقيت أربعين شهرا أفطر كل ليلة على كف باقلاء ، فافتصدت فخرج شبه ماء اللحم ، فغشي علي فتحير الفصاد ، وقال : ما رأيت جسدا بلا دم إلا هذا .

                                                                                      قال ابن باكويه : سمعت أبا أحمد الكبير : سمعت ابن خفيف يقول : نهبت في البادية ، وجعت حتى سقطت لي ثمانية أسنان ، وانتثر شعري ، ثم [ ص: 344 ] وقعت إلى فيد ، وأقمت بها حتى تماثلت ، وحججت ، ثم مضيت إلى بيت المقدس ، ودخلت الشام ، فنمت إلى جانب دكان صباغ ، وبات معي في المسجد رجل به قيام ، فكان يخرج ويدخل فلما أصبحنا صاح الناس ، وقالوا : نقب دكان الصباغ وسرقت ، فدخلوا المسجد ورأونا ، فقال المبطون : لا أدري ، غير أن هذا كان طول الليل يدخل ويخرج ، وما خرجت إلا مرة تطهرت ، فجروني وضربوني ، وقالوا : تكلم ، فاعتقدت التسليم ، فاغتاظوا من سكوتي ، فحملوني إلى دكان الصباغ ، وكان أثر رجل اللص في الرماد ، فقالوا : ضع رجلك فيه ، فكان على قدر رجلي ، فزادهم غيظا .

                                                                                      وجاء الأمير ، ونصبت القدر ، وفيها الزيت يغلي ، وأحضرت السكين ومن يقطع ، فرجعت إلى نفسي وإذا هي ساكنة ، فقلت : إن أرادوا قطع يدي سألتهم أن يعفوا عن يميني لأكتب بها ، وبقي الأمير يهددني ويصول ، فنظرت إليه فعرفته ، كان مملوكا لأبي ، فكلمني بالعربية وكلمته بالفارسية ، فنظر إلي وقال : أبو الحسين ، - وبها كنت أكنى في صباي - ، فضحكت ، فأخذ يلطم برأسه ووجهه ، واشتغل الناس به ، فإذا بضجة ، وأن اللصوص قد أخذوا ، فذهبت والناس ورائي وأنا ملطخ بالدماء ، جائع لي أيام لم آكل ، فرأتني عجوز فقيرة ، فقالت : ادخل ، فدخلت ، ولم يرني الناس ، وغسلت وجهي ويدي ، فإذا الأمير قد أقبل يطلبني ، فدخل ومعه جماعة . وجر من منطقته سكينا ، وحلف بالله إن أمسكني أحد لأقتلن نفسي ، وضرب بيده رأسه ووجهه مائة صفعة حتى منعته أنا ، ثم اعتذر وجهد بي أن أقبل شيئا فأبيت وهربت ليومي ، فحدثت بعض المشايخ ، فقال : هذا عقوبة انفرادك . فما دخلت بلدا فيه فقراء إلا قصدتهم .

                                                                                      قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف ، - وقد سأله قاسم الإصطخري عن [ ص: 345 ] الأشعري - ، فقال : كنت مرة بالبصرة جالسا مع عمرو بن علويه على ساجة في سفينة نتذاكر في شيء ، فإذا بأبي الحسن الأشعري قد عبر وسلم علينا . وجلس ، فقال : عبرت عليكم أمس في الجامع ، فرأيتكم تتكلمون في شيء عرفت الألفاظ ولم أعرف المغزى ! فأحب أن تعيدوها علي ، قلت : وفي أي شيء كنا ؟ قال : في سؤال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى وسؤال موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك فقلت : نعم . قلنا : إن سؤال إبراهيم هو سؤال موسى ، إلا أن سؤال إبراهيم سؤال متمكن ، وسؤال موسى سؤال صاحب غلبة وهيجان ، فكان تصريحا ، وسؤال إبراهيم كان تعريضا ، وذلك أنه قال : أرني كيف تحيي الموتى فأراه كيفية المحيى ، ولم يره كيفية الإحياء ، لأن الإحياء صفته تعالى ، والمحيى قدرته ، فأجابه إشارة كما سأله إشارة ، إلا أنه قال في الآخر : واعلم أن الله عزيز فالعزيز : المنيع . فقال أبو الحسن : هذا كلام صحيح ، ثم إني مشيت مع أبي الحسن ، وسمعت مناظرته ، وتعجبت من حسن مناظرته حين أجابهم .

                                                                                      قال أبو العباس الفسوي : صنف شيخنا ابن خفيف من الكتب ما لم يصنفه أحد ، وانتفع به جماعة صاروا أئمة يقتدى بهم ، وعمر حتى عم نفعه البلدان .

                                                                                      قال أبو الفتح عبد الرحيم خادم ابن خفيف : سمعت الشيخ يقول : سألنا يوما أبو العباس ابن سريج بشيراز ونحن نحضر مجلسه للفقه ، فقال : أمحبة الله فرض أو لا ؟ فقلنا : فرض . قال : ما الدليل ؟ فما فينا من أجاب [ ص: 346 ] بشيء ، فسألناه ، فقال : قوله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى قوله : أحب إليكم من الله ورسوله الآية . قال : فتوعدهم الله على تفضيل محبتهم لغيره على محبته ، والوعيد لا يقع إلا على فرض لازم .

                                                                                      قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف يقول : كنت في بدايتي ربما أقرأ في ركعة واحدة عشرة آلاف قل هو الله أحد وربما كنت أقرأ في ركعة القرآن كله .

                                                                                      وروي عن ابن خفيف ، أنه كان به وجع الخاصرة ، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة ، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل ، فقيل له : لو خففت على نفسك ؟ ! قال : إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة .

                                                                                      قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف يقول : ما وجبت علي زكاة الفطر أربعين سنة .

                                                                                      قال ابن باكويه : نظر أبو عبد الله بن خفيف يوما إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئا ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نكتب كذا وكذا ، قال : اشتغلوا بتعلم شيء ، ولا يغرنكم كلام الصوفية ، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي ، والورق في حجزة سراويلي ، وأذهب في الخفية إلى أهل العلم ، فإذا علموا بي خاصموني ، وقالوا : لا يفلح ، ثم احتاجوا إلي .

                                                                                      قلت : قد كان هذا الشيخ قد جمع بين العلم والعمل ، وعلو السند ، [ ص: 347 ] والتمسك بالسنن ، ومتع بطول العمر في الطاعة . يقال : إنه عاش مائة سنة وأربع سنين ، وانتقل إلى الله تعالى في ليلة الثالث من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة والأصح أنه عاش خمسا وتسعين سنة ، وازدحم الخلق على سريره ، وكان أمرا عجيبا . وقيل : إنهم صلوا عليه نحوا من مائة مرة .

                                                                                      وفيها مات بجرجان الإمام أبو بكر الإسماعيلي ، والصالح أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني الصيداوي والد صاحب " المعجم " ، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن سلمة المصري الخياش ، والحافظ أبو محمد الحسن بن أحمد بن صالح السبيعي بحلب ، والقاضي إبراهيم بن أحمد الميمذي ، الراوي عن محمد بن حيان المازني ، لكنه تالف ، وبشر بن محمد المزني الهروي ، ومقرئ الوقت أبو العباس الحسن بن سعيد بن جعفر العباداني المطوعي عن مائة عام ، والحسن بن علي الباد ، الشاهد له عن أبي شعيب الحراني .

                                                                                      ومفتي المغرب أبو سعيد ، وأبو نصر خلف بن عمر القيرواني المالكي ، وأبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان الزبيبي البزاز عن ثلاث وتسعين سنة ، وشيخ المالكية بالقيروان أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن التبان ، ورئيس الحنبلية أبو الحسن التميمي عبد العزيز بن الحارث ، والعلامة أبو زيد المروزي الزاهد ، والمحدث أبو بكر محمد بن إسحاق البغدادي الصفار ، وأبو بكر محمد بن خلف بن جيان - بجيم - البغدادي الخلال أحد الثقات ، وشاعر الأندلس أبو بكر يحيى بن هذيل المالكي .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية