الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل في مراتب الذنوب أما مراتبها في الآخرة فله موضع غير هذا ; وإنما الغرض هنا مراتبها في الدنيا : في الذم والعقاب . وقد ذكرت فيما قبل هذا أن الذنوب التي فيها ظلم الغير والإضرار به في الدين والدنيا أعظم عقوبة في الدنيا مما لم يتضمن ضرر الغير ; وإن كان عقوبة هذا في الآخرة أكبر كما يعاقب ذوو الجرائم من المسلمين بما لا يعاقب به أهل الذمة من الكافرين ; وإن كان الكافر أشد عذابا في الآخرة من المسلم . ويعاقب الثاني على عدالته مثل شارب النبيذ متأولا . والبغاة المتأولين بما لا يعاقب به الفاسق المستسر بالذنب . ويعاقب [ ص: 182 ] الداعي إلى بدعة والمظهر للمنكر بما لا يعاقب به المنافق المستسر بنفاقه من غير دعوة للغير . فهذه أمثلة في الكافر والفاسق وفي الفاسق والعدل وفي المنافق والمؤمن المظهر لبدعة أو ذنب . وبينت سبب ذلك ; أن عقوبة هؤلاء من باب دفع ظلم الظالمين عن الدين والدنيا ; بخلاف من لم يظلم إلا نفسه فإن عقوبته إلى ربه .

                " وجماع الأمر " أن الذنوب كلها ظلم : فإما ظلم العبد لنفسه فقط أو ظلمه مع ذلك لغيره ; فما كان من ظلم الغير فلا بد أن يشرع من عقوبته ما يدفع به ظلم الظالم عن الدين والدنيا كما قال تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } فجعل السبب المبيح لعقوبة الغير التي هي قتاله : { بأنهم ظلموا } . وقال : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } فبين أن الظالم يعتدى عليه : أي بتجاوز . الحد المطلق في حقه ; وهو العقوبة وهذا عدوان جائز كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

                وقول بعضهم : إن هذا ليس بعدوان في الحقيقة وإنما سماه عدوانا على سبيل المقابلة كما قالوا مثل ذلك في قوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } . لا يحتاج إليه ; فإن العدوان المطلق هو مجاوزة الحد المطلق وهذا لا يجوز في حقه إلا إذا اعتدى فيتجاوز الحد في حقه بقدر تجاوزه . [ ص: 183 ] والسيئة اسم لما يسوء الإنسان ; فإن المصائب والعقوبات تسمى سيئة في غير موضع من كتاب الله تعالى .

                والظلم نوعان : تفريط في الحق وتعد للحد . فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال . والثاني الاعتداء عليه مثل القتل وأخذ المال وكلاهما ظلم ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع } فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا . وقد قال تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } إلى قوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } . قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها . فسمى الله تكميل المهر قسطا ; وضده الظلم .

                وهذا في الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين : أن العدل قد يكون أداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وأن الظلم أيضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الأمرين . فإذا عرف هذا ; وقد عرف أن العدل والظلم يكون [ ص: 184 ] في حق نفس الإنسان ويكون في حقوق الناس - كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من " القواعد " وفي آخر " مسودة الفقه " كلاما كليا في أن جميع الحسنات تدخل في العدل وجميع السيئات تدخل في الظلم - فإنه يتبين بهذا مسائل نافعة .

                منها : أن أولي الأمر من المسلمين من العلماء والأمراء ومن يتبعهم على كل واحد منهم حقوق للناس هي المقصودة الواجبة منه في مرتبته ; وإن لم تكن مطلوبة من غير ذلك النوع ولا واجبة عليه ; إذ وجوبها عليه دون ذلك . وكذلك قد يكون عليه محرمات حرمتها عليه مرتبته وإن لم تحرم على غير أهل تلك المرتبة أو تحريمها عليهم أخف : مثال ذلك الجهاد فإنه واجب على المسلمين عموما على الكفاية منهم ; وقد يجب أحيانا على أعيانهم ; لكن وجوبه على المرتزقة الذين يعطون مال الفيء لأجل الجهاد أوكد ; بل هو واجب عليهم عينا ; واجب بالشرع وواجب بالعقد الذي دخلوا فيه لما عقدوا مع ولاة الأمر عقد الطاعة في الجهاد وواجب بالعوض . فإنه لو لم يكن واجبا لا بشرع ولا ببيعة إمام : لوجب بالمعاوضة عليه كما يجب العمل على الأجير الذي قبض الأجرة ويجب تسليم المبيع على من قبض الثمن وهذا وجوب بعقد المعاوضة وبقبض العوض كما أن الأول وجوب [ ص: 185 ] بالشرع وبمجرد مبايعة الإمام وهو واجب أيضا من جهة ما في تركه من تغرير المسلمين والضرر اللاحق لهم بتركه وجوب الضمان للمضمون له .

                فإن " المرتزقة " ضمنوا للمسلمين بالارتزاق الدفع عنهم فاطمأن الناس إلى ذلك واكتفوا بهم وأعرضوا عن الدفع بأنفسهم ، أعظم مما يطمئن الموكل والمضارب إلى وكيله وعامله فإذا فرط بعضهم وضيع كان ذلك من أعظم الضرر على المسلمين ; فإنهم أدخلوا الضرر العظيم على المسلمين في دينهم ودنياهم بما تركوه من القتال عن المسلمين الواجب عليهم حتى لحق المسلمين من الضرر في دينهم ودنياهم : في الأنفس والذرية والأموال ما لا يقدر قدره أحد .

                فظلم المقاتلة بترك الجهاد عن المسلمين من أعظم ظلم يكون ; بخلاف ما يلحق أحدهم من الضرر فإن ذاك ظلم لنفسه . وكذلك ما يفعله من المعصية المختصة به - كشرب الخمر وفعل الفاحشة - فإن هذا ظلم لنفسه مختص به فعقوبته على ترك الجهاد وذمه على ذلك أعظم بكثير من ذمه وعقوبته على ذلك .

                وإذا لم يمكن جمع العقوبتين كانت العقوبة على ترك الجهاد مقدمة على العقوبة على هذه المعاصي كما أن منفعة الجهاد له وللمسلمين قد [ ص: 186 ] تكون أعظم بكثير من منفعة ردعه عن الخمر والفاحشة إذا استسر بذلك ولم يظلم به غيره ; فيدفع هنا أعظم الفسادين باحتمال أدناهما . وفي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم { إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم } ويذم أحد هؤلاء أو يزجر بما فيه من عجز عن الجهاد أو تفريط فيه ما لا يفعل بغيره ممن ليس مرصدا للجهاد .

                وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة : صورة ومعنى ; مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموما على الكفاية منهم ومنه ما يجب على أعيانهم وهو علم العين الذي يجب على المسلم في خاصة نفسه ; لكن وجوب ذلك عينا وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه أو رزقوا عليه أعظم من وجوبه على غيرهم ; لأنه واجب بالشرع عموما . وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم ; ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب ومعرفة الطرق الموصلة إليه من الكتب المصنفة والعلماء المتقدمين وسائر الأدلة المتعددة والتفرغ له عما يشغل به غيرهم .

                ولهذا مضت السنة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم كالشروع في الحج يعني أن ما حفظه من علم الدين وعلم الجهاد ليس له [ ص: 187 ] إضاعته لقول النبي صلى الله عليه وسلم { من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم } رواه أبو داود . وقال : { عرضت علي أعمال أمتي - حسنها وسيئها - فرأيت في مساوئ أعمالها الرجل يؤتيه الله آية من القرآن ثم ينام عنها حتى ينساها } وقال : { من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا } رواه مسلم .

                وكذلك الشروع في عمل الجهاد . فإن المسلمين إذا صافوا عدوا أو حاصروا حصنا ليس لهم الانصراف عنه حتى يفتحوه . ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه } .

                فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه ; فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين ; ولهذا قال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم .

                كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء .

                [ ص: 188 ] وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم . وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم . وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم فيها ; هي من أعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم ; لأن إظهار غير العالم - وإن كان فيه نوع ضرر - فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل ; فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو ; ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة ; لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين .

                فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم كلاهما ذنب عظيم ; وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم ; فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه . وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك .

                ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي [ ص: 189 ] وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو : أكثر مما تستعظمه من غيره . وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع : أكثر مما تستعظم ذلك من غيره ; بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته ; وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن .

                ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالي والقاضي ; فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم : يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية