الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 348 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويجب الختان لقوله تعالى : ( { أن اتبع ملة إبراهيم } ) وروي " أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ختن نفسه بالقدوم " ولأنه لو لم يكن واجبا لما كشفت له العورة ; لأن كشف العورة محرم فلما كشفت له العورة دل على وجوبه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم } " رواه البخاري ومسلم ، وينكر على المصنف قوله : " روي " بصيغة التمريض الموضوعة للتضعيف مع أنه في الصحيحين وقد سبق له نظيره ونبهنا عليه هناك . وقد سبق إيضاح هذه القاعدة في مقدمة الكتاب . وفي القدوم روايتان التخفيف والتشديد ، والأكثرون رووه بالتشديد ، وعلى هذا هو اسم مكان بالشام ورواه جماعة بالتخفيف ، وقيل : إنه قول أكثر أهل اللغة . واختلفوا على هذا فقيل : المراد به أيضا موضع بالشام ، وأنه يجوز فيه التشديد والتخفيف وقال الأكثرون : المراد به آلة النجار وهي مخففة لا غير وجمعها قدم ، قال أبو حاتم السجستاني : ويجمع أيضا على قدائم ، ولا يقال قداديم قال : وهي مؤنثة ، واتفقوا على فتح القاف في الآلة والمكان والله أعلم . فإن قيل : لا دلالة في الآية على وجوب الختان لأنا أمرنا بالتدين بدينه فما فعله معتقدا وجوبه فعلناه معتقدين وجوبه ، وما فعله ندبا فعلناه ندبا ، ولم يعلم أنه كان يعتقده واجبا . فالجواب أن الآية صريحة في اتباعه فيما فعله ، وهذا يقتضي إيجاب كل فعل فعله إلا ما قام دليل على أنه سنة في حقنا كالسواك ونحوه ، وقد نقل الخطابي أن خصال الفطرة كانت واجبة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأما الاستدلال بكشف العورة فقد ذكره آخرون مع المصنف وقاله قبلهم أبو العباس بن سريج - رحمه الله - أورد عليه كشفها للمداواة التي لا تجب ، والجواب أن كشفها لا يجوز لكل مداواة وإنما يجوز في موضع يقول أهل [ ص: 349 ] العرف : إن المصلحة في المداواة راجحة على المصلحة في المحافظة على المروءة وصيانة العورة كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في أول كتاب النكاح حيث ذكره المصنف والأصحاب . فلو كان الختان سنة لما كشفت العورة المحرم كشفها له . واعتمد المصنف في كتابه في الخلاف والغزالي في الوسيط وجماعة قياسا فقالوا : الختان قطع عضو سليم ، فلو لم يجب لم يجز كقطع الأصبع ، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب بالقصاص والله أعلم .

                                      ( فرع ) الختان واجب على الرجال والنساء عندنا وبه قال كثيرون من السلف ، كذا حكاه الخطابي ، وممن أوجبه أحمد وقال مالك وأبو حنيفة : سنة في حق الجميع وحكاه الرافعي وجها لنا ، وحكى وجها ثالثا أنه يجب على الرجل وسنة في المرأة ، وهذان الوجهان شاذان ، والمذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء ، ودليلنا ما سبق . فإن احتج القائلون بأنه سنة بحديث : الفطرة عشرة ومنها الختان ، فجوابه قد سبق عند ذكرنا تفسير الفطرة والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : الواجب في ختان الرجل قطع الجلدة التي تغطي الحشفة بحيث تنكشف الحشفة كلها ، فإن قطع بعضها وجب قطع الباقي ثانيا ، صرح به إمام الحرمين وغيره ، وحكى الرافعي عن ابن كج أنه قال : عندي أنه يكفي قطع شيء من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها ، وهذا الذي قاله ابن كج شاذ ضعيف ، والصحيح المشهور الذي قطع به الأصحاب في الطرق ما قدمناه أنه يجب قطع جميع ما يغطي الحشفة . والواجب في المرأة قطع ما ينطلق عليه الاسم من الجلدة التي كعرف الديك فوق مخرج البول ، وصرح بذلك أصحابنا واتفقوا عليه . قالوا : ويستحب أن يقتصر في المرأة على شيء يسير ولا يبالغ في القطع واستدلوا فيه بحديث عن أم عطية رضي الله عنها { أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل } " رواه أبو داود . ولكن قال : ليس هو بالقوي ، وتنهكي بفتح التاء والهاء أي لا تبالغي في القطع والله أعلم .



                                      [ ص: 350 ] فرع ) قال أصحابنا : وقت وجوب الختان بعد البلوغ ، لكن يستحب للولي أن يختن الصغير في صغره لأنه أرفق به ، وقال صاحب الحاوي وصاحبا المستظهري والبيان وغيرهم : يستحب أن يختن في اليوم السابع لخبر ورد فيه إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخره حتى يحتمله ، قال صاحبا الحاوي والمستظهري ، وهل يحسب يوم الولادة من السبعة ؟ فيه وجهان ، قال أبو علي بن أبي هريرة : يحسب ، وقال الأكثرون : لا يحسب ، فيختن في السابع بعد يوم الولادة ذكره صاحب المستظهري في باب التعزير . قال صاحب الحاوي : فإن ختنه قبل اليوم السابع كره . قال : وسواء في هذا الغلام والجارية قال : فإن أخر عن السابع استحب ختانه في الأربعين ، فإن أخر استحب في السنة السابعة . واعلم أن هذا الذي ذكرناه من أنه يجوز ختانه في الصغر ولا يجب لكن يستحب هو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ، وفي المسألة وجه أنه يجب على الولي ختانه في الصغر لأنه من مصالحه فوجب . حكاه صاحب البيان عن حكاية القاضي أبي الفتوح عن الصيدلاني وأبي سليمان قال : وقال سائر أصحابنا : لا يجب . ووجه ثالث أنه يحرم ختانه قبل عشر سنين ، لأن ألمه فوق ألم الضرب ولا يضرب على الصلاة إلا بعد عشر سنين ، حكاه جماعة منهم القاضي حسين في تعليقه ، وأشار إليه البغوي في أول كتاب الصلاة وليس بشيء ، وهو كالمخالف للإجماع والله أعلم



                                      ( فرع ) لو كان لرجل ذكران قال صاحب البيان : إن عرف الأصلي منهما ختن وحده ، قال صاحب الإبانة : يعرف الأصلي بالبول ، وقال غيره : بالعمل فإن كانا عاملين أو يبول منهما وكانا على منبت الذكر على السواء وجب ختانهما . وأما الخنثى المشكل فقال في البيان : قال القاضي أبو الفتوح : يجب ختانه في فرجيه جميعا ; لأن أحدهما واجب ولا يتوصل إليه إلا بختانهما ، كما أن من تزوج بكرا لما لم يتمكن من وصوله إلى الوطء المستحق إلا بقطع بكارتها كان له ذلك بلا ضمان ، قال : فإن كان الخنثى صغيرا ختنه الرجال والنساء إذا قلنا بالوجه الضعيف : إن الصغير يجب ختانه ، وإن قلنا بالمذهب [ ص: 351 ] إنه لا يجب ختان الصغير لم يختن الخنثى الصغير حتى يبلغ فيجب ، وحينئذ إن كان هو يحسن الختان ختن نفسه وإلا اشترى له جارية تختنه ، فإن لم توجد جارية تحسن ذلك ختنه الرجال والنساء للضرورة كالتطبيب ، هذا كلام صاحب البيان وقطع البغوي بأن لا يختن الخنثى المشكل لأن الجرح على الإشكال لا يجوز ، ذكره قبل كتاب الصداق بأسطر في فصلين ذكر فيهما أحكام الخنثى ، وهذا الذي ذكره البغوي هو الأظهر المختار والله أعلم .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يجب الختان حتى يبلغ فإذا بلغ وجب على الفور . قال صاحب الحاوي وإمام الحرمين وغيرهما : فإن كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه لم يجز أن يختن ، بل ينتظر حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته ، قال صاحب الحاوي : لأنه لا تعبد فيما يفضي إلى التلف .



                                      ( فرع ) لو مات غير مختون فثلاثة أوجه : الصحيح الذي قطع به الجمهور لا يختن ; لأن ختانه كان تكليفا وقد زال بالموت ( والثاني ) : يختن الكبير والصغير ( والثالث ) : يختن الكبير دون الصغير ، حكاهما في البيان وهما شاذان ضعيفان ، وهذه المسألة موضعها كتاب الجنائز ، وهناك ذكرها الأصحاب وسنوضحها هناك إن شاء الله تعالى



                                      ( فرع ) قال القاضي حسين والبغوي : يجب على السيد أن يختن عبده أو يخلي بينه وبين كسبه ليختن به نفسه ، قال القاضي : فإن كان العبد زمنا فأجرة ختانه في بيت المال ، وهذا الذي قاله فيه نظر وينبغي أن يجب على السيد كالنفقة



                                      ( فرع ) أجرة ختان الطفل في ماله ، فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه التبصرة في الوسوسة : لو ولد مختونا بلا قلفة فلا ختان لا إيجابا ولا استحبابا ، فإن كان من القلفة [ ص: 352 ] التي تغطي الحشفة شيء موجود وجب قطعه كما لو ختن ختانا غير كامل فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يبين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في وقت الختان . قد ذكرنا أن أصحابنا استحبوه يوم السابع من ولادته ، قال ابن المنذر في كتاب الختان من كتابه الأشراف وهو عقب الأضحية وهي عقب كتاب الحج : روي عن أبي جعفر عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع ، قال : وكره الحسن البصري ومالك الختان يوم سابعه لمخالفة اليهود ، قال مالك : عامة ما رأيت الختان ببلدنا إذا ثغر الصبي ، قال أحمد بن حنبل : لم أسمع في ذلك شيئا ، وقال الليث بن سعد : يختن ما بين السبع إلى العشر ، قال : وروي عن مكحول أو غيره أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ختن ابنه إسحاق لسبعة أيام ، وإسماعيل لسبع عشرة سنة ، قال ابن المنذر بعد حكايته هذا كله : ليس في باب الختان نهي يثبت ، ولا لوقته حد يرجع إليه ، ولا سنة تتبع ، والأشياء على الإباحة ، ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة ، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة . هذا آخر كلام ابن المنذر




                                      الخدمات العلمية