الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

                                                                                                                                                                                                                                        (72) يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم [ ص: 437 ] فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.

                                                                                                                                                                                                                                        إنه من يشرك بالله أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره. فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له - وهو العبادة الخالصة - لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار.

                                                                                                                                                                                                                                        وما للظالمين من أنصار ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم.

                                                                                                                                                                                                                                        (73) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

                                                                                                                                                                                                                                        وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى -رادا عليهم وعلى أشباههم -: وما من إله إلا إله واحد متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير ، ما بالخلق من نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم توعدهم بقوله: وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم .

                                                                                                                                                                                                                                        (74) ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال: أفلا يتوبون إلى الله أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه ويستغفرونه عن ما صدر منهم والله غفور رحيم أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات.

                                                                                                                                                                                                                                        وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: أفلا يتوبون إلى الله .

                                                                                                                                                                                                                                        (75) ثم ذكر حقيقة المسيح وأمه، الذي هو الحق، فقال: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أي: هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.

                                                                                                                                                                                                                                        وأمه مريم صديقة أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، [ ص: 438 ] والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله: كانا يأكلان الطعام دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد.

                                                                                                                                                                                                                                        ولما بين تعالى البرهان قال: انظر كيف نبين لهم الآيات الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية