الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والله الذي أرسل الرياح مبتدأ وخبر، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «الريح» وصيغة المضارع في قوله تعالى: فتثير سحابا لحكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة، وكثيرا ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تميز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك، ومنه قول تأبط شرا:


                                                                                                                                                                                                                                      ألا من مبلغ فتيان فهم بما لاقيت عند رحى بطان     بأني قد رأيت الغول تهوي
                                                                                                                                                                                                                                      بسهب كالصحيفة صحصحان     فقلت لها كلانا نضو أرض
                                                                                                                                                                                                                                      أخو سفر فخلي لي مكاني     فشدت شدة نحوي فأهوت
                                                                                                                                                                                                                                      لها كفي بمصقول يماني     فأضربها بلا دهش فخرت
                                                                                                                                                                                                                                      صريعا لليدين وللجران



                                                                                                                                                                                                                                      ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلا بالنسبة إلى الإرسال، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر، وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك، وقال الإمام: اختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عز وجل: ( كن ) [البقرة: 117 وغيرها] فلا يبقى في العدم زمانا ولا جزء زمان جيء بلفظ الماضي دون المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة، والتقدير كالإرسال، ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه (تثير) بلفظ المستقبل اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأورد عليه قوله تعالى: في سورة الروم الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا وفي سورة الأعراف: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [الأعراف: 57] حيث جيء في الإرسال فيها بالمضارع، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      فسقناه إلى بلد ميت قطعة من الأرض لا نبات فيها، وقرئ «ميت» بالتخفيف، وهما بمعنى واحد في المشهور [ ص: 172 ] وفي كليات أبي البقاء الكفوي الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      ومن يك ذا روح فذلك ميت     وما الميت إلا من إلى القبر يحمل



                                                                                                                                                                                                                                      والمعول عليه هو المشهور.

                                                                                                                                                                                                                                      فأحيينا به الأرض أي بالمطر النازل منه المدلول عليه بالسحاب، فإن بينهما تلازما في الذهن كما في الخارج، أو بالسحاب فإنه سبب السبب، وإحياء الأرض إنبات الشجر والكلأ فيها بعد موتها يبسها وخلوها عن ذلك، وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن الاختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى: كذلك النشور في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام عليه الرحمة: أسند أرسل إلى الغائب وساق «وأحيي» إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى: أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض، ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة، فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والإحياء، وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال سبحانه: فأحيينا به الأرض دون فأحييناه، أي البلد الميت به تعليقا للإحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض ولأن ذلك أوفق بأمر البعث، وقال تعالى: بعد موتها مع أن الإحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوى أمر التشبيه، فليتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      والنشور على ما في البحر مصدر نشر الميت إذا حيي قال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      حتى يقول الناس مما رأوا     يا عجبا للميت الناشر



                                                                                                                                                                                                                                      وفي نهاية ابن الأثير يقال نشر الميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت وأنشره الله تعالى أحياه، وقال الراغب : قيل نشر الله تعالى الميت وأنشره بمعنى، والحقيقة أن نشر الله تعالى الميت مستعار من نشر الثوب، أي بسطه كما قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      طوتك خطوب دهرك بعد نشر     كذاك خطوبه طيا ونشرا



                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالنشور هنا إحياء الأموات في يوم الحساب، وهو مبتدأ والجار والمجرور قبله في موضع الخبر وقيل الكاف في حيز الرفع على الخبرية، أي مثل ذلك الأحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات يوم القيامة في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الألف في الأول دون الثاني، وقال أبو حيان : وقع التشبيه بجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب كذلك يجمع الله تعالى أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى، أو كما يسوق سبحانه الحساب إلى البلد الميت يسوق عز وجل الروح والحياة إلى البدن، وقال بعضهم: التشبيه باعتبار الكيفية، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلا من شاء الله تعالى إلا مات ثم يرسل الله تعالى من تحت العرش ماء كمني الرجال فتنبت أجسامهم من ذلك الماء، وقرأ الآية، ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها . وفي حديث مسلم مرفوعا ينزل الله تعالى مطرا كأنه الطل فينبت أجساد الناس. [ ص: 173 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ونبات الأجساد من عجب الذنب على ما ورد في الآثار وقد جاء أنه لا يبلى، وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، وقال أبو زيد الوقواقي: هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغير، ولا حاجة إلى التزام أنه جوهر فرد.

                                                                                                                                                                                                                                      ووراء ذلك أقوال عجيبة في هذا العجب، فقيل: هو العقل الهيولاني، وقيل: بل الهيولي، وعن الغزالي: إنما هو النفس وعليها تنشأ النشأة الآخرة، وعن الشيخ الأكبر: أنه العين الثابت من الإنسان، وعن بعض المتكلمين: أنه الأجزاء الأصلية، وقال الملا صدرا الشيرازي في أسفاره: هو عندنا القوة الخيالية لأنها آخر الأكوان الحاصلة في الإنسان من القوى الطبيعية والحيوانية والنباتية المتعاقبة في الحدوث للمادة الإنسانية في هذا العالم، وهي أول الأكوان الحاصلة في النشأة الآخرة ثم بين ذلك بما بين، وإنه لأضعف من بيت العنكبوت وأوهن. والمعول عليه ما يوافق فهم أهل اللسان، وأي حاجة إلى التأويل بعد التصديق بقدرة الملك الديان جل شأنه وعظم سلطانه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية