الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا يستعجلون بالتوعد؛ استهزاء؛ فيقولون: ما له لا يهلكنا؛ علم أن التقدير: "لو عاملكم الله معاملة المؤاخذ؛ لعجل إهلاككم"؛ فعطف عليه قوله - إظهارا للحكم مع العلم -: ولو يؤاخذ الله ؛ أي: بما له من صفات العلو؛ الناس ؛ أي: من فيه نوس؛ أي: حركة واضطراب؛ من المكلفين عامة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان السياق هنا لأفعال الجوارح؛ لأن المكر والكبر إنما تكره آثارهما؛ لا الاتصاف بهما؛ بخلاف الذي هو سياق "النحل"؛ فإنه ممنوع من الاتصاف؛ وإن لم يظهر به أثر من آثار الجوارح؛ عبر هنا بالكسب؛ [ ص: 79 ] وفك المصدر ليخص ما وجد منه بالفعل؛ فقال: بما كسبوا ؛ أي: من جميع أعمالهم؛ سواء كان حراما؛ أو لا؛ ما ترك على ظهرها ؛ أي: الأرض؛ من دابة ؛ أي: بل كان يهلك الكل؛ أما المكلفون فلأنه ليس في أعمالهم شيء يقدره - سبحانه - حق قدره؛ لما لهم من النقص؛ ولما له - سبحانه - من العلو؛ والارتقاء؛ والكمال؛ وأما غيرهم فإنما خلقوا لهم؛ والمعاصي تزيل النعم؛ وتحل النقم؛ وذلك كما فعل في زمان نوح - عليه السلام -؛ لم ينج ممن كان على الأرض غير من كان في السفينة؛ ولكن ؛ لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش؛ بل يحلم عنهم؛ فهو يؤخرهم ؛ أي: في الحياة الدنيا؛ ثم في البرزخ؛ إلى أجل مسمى ؛ أي: سماه في الأزل؛ لانقضاء أعمارهم؛ ثم لبعثهم من قبورهم؛ وهو لا يبدل القول لديه؛ لما له من الصفات التي هي أغرب الغريب عندكم؛ لكونكم لا تدركونها حق الإدراك؛ فإذا جاء أجلهم ؛ أي: الفنائي الإعدامي؛ قبض كل واحد منهم عند أجله؛ أو الإيجابي الإبقائي؛ بعث كلا منهم؛ فجازاه بعمله من غير وهم؛ ولا عجز.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا ينكرون ما يفمهه ذلك من البعث؛ أكد؛ فقال: فإن الله ؛ أي: الذي له صفات الكمال؛ الموجد بتمام القدرة؛ وكمال [ ص: 80 ] الاختيار؛ كان ؛ ولم يزل؛ ولما كان السياق للكسب؛ الذي هو أعم من الظلم؛ قال: بعباده ؛ الذين أوجدهم؛ ولا شريك له في إيجاد أحد منهم؛ بجميع ذواتهم؛ وأحوالهم؛ بصيرا ؛ أي: بالغ البصر؛ والعلم؛ بمن يستحق العذاب منهم بالكسب؛ ومن يستحق الثواب؛ فقد انطبق آخرها؛ كما ترى؛ على أولها؛ باستجماع صفات الكمال وتمام القدرة على كل من الإيجاد؛ والإعدام؛ للحيوان؛ والجماد؛ مهما أراد؛ بالاختيار؛ لما شوهد له - سبحانه - من الآثار؛ كما وقع الإرشاد إليه بالأمر بالسير؛ وبغيره؛ وبما ختمت به السورة من صفة العلم؛ على وجه أبلغ من ذكره بلفظه؛ لما مضى في سورة "طـه"؛ من أن إحاطة العلم تستلزم شمول القدرة؛ ولا تكون القدرة شاملة إلا إذا كانت عن اختيار؛ فثبت حينئذ استحقاقه (تعالى) لجميع المحامد؛ فكانت عنه - سبحانه - الرسالات الهائلة الجامعة للعزة؛ والحكمة؛ بالملائكة المجردين عن الشهوات؛ وكل حظ؛ إلى من ناسبهم من البشر؛ بما غلب من جيش عقله على عساكر شهواته ونفسه؛ حتى صار عقلا مجردا صافيا؛ حاكما على الشهوات والحظوظ؛ قاهرا؛ كافيا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية