الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين، وأوصافهم، وأحوالهم، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة: وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين، وقد أشار سبحانه بهذا إلى أنهم كانوا معوقين في ابتداء القتال، قيل لهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم، ومن أهليهم وعشيرتهم: تعالوا، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق، فإن لم تسم نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة، فالمعنى: قاتلوا لرضا الله، أو ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم إن لم تقاتلوا، وقيل: إن معنى ادفعوا أن يكثروا سواد المسلمين، فيلقي ذلك الرعب في قلوب الأعداء فيعرفوهم بهذا التكثير، وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره قال: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوهم، قيل: كيف وقد كف بصرك؟ قال: لقوله تعالى: " أو ادفعوا " وعبر بالمجهول في قوله تعالى: " وقيل لهم تعالوا " للإشارة إلى كثرة القائلين فقيل لهم من النبي، ومن الأصحاب، ومن أهلهم وعشيرتهم المؤمنين، ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق. قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم [ ص: 1497 ] ظاهر المعنى أنهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم أنهم لا يعتقدون أن قتالا يقع، وأن الأمر ينتهي بغير قتال، ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر، فقرر أن المعنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه وأخذ فيه بالاحتياط، ولكنه زلل، وإلقاء بالتهلكة، وكان خيرا أن تبقوا بالمدينة، حتى يجيء العدو إليكم، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول، وهو البقاء في المدينة، ولو بقوا في المدينة لوجدوا السبيل لبث الفتنة بطرق أخرى، فهم لا يبغون إلا الفتنة؛ وذلك لأنهم خرجوا معهم، ولكنهم قبل أن يصلوا إلى أحد رجعوا فرجع كبيرهم عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة ممن على شاكلته ليخذلوا المؤمنين.

                                                          هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم تضمن ذلك النص حكما على أعمال المنافقين، وبيانا لحقيقتهم، فأما الحكم فهو أنهم في هذا اليوم المشهود الجليل الذي ميزهم وعرف بهم - كانوا أقرب إلى الكفر من الإيمان، وأما الوصف فهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم مغررين مظهرين الإيمان، وكاتمين الكفر، ويذكرون لبث روح الهزيمة بين المؤمنين أمورا يعرفون كذبها، وينشرون أراجيف يعلمون بطلانها.

                                                          والحكم الذي حكم الله به عليهم، وهو أنهم في هذا اليوم، أقرب للكفر منهم للإيمان، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين، وهزيمة الآخرين، مع أنهم عشراؤهم وخلطاؤهم، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان أبا لبعض المؤمنين أو أخا، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى، فكانوا يقطعون ما أمر الله به أن يوصل. فالمراد بـ " الكفر " أهله، وكما في قوله تعالى: فليدع ناديه ويصح أن يقال: إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان، وإن كانت لا تدل على كل حقيقتهم؛ وذلك لأن تلك [ ص: 1498 ] الحوادث قد كشفتهم، وبينت قربهم من الكفر، إذ حرصهم على ألا يظهروا بحقيقتهم جعلهم لا يعلنون كل أمرهم، ولكن الجزء الذي ظهر، وإن لم يكن الكل، دل على حقيقة النفاق الذي يسكن قلوبهم، وكان مظهرهم به أقرب إلى الكفر، وأما الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به وهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فتلك طبيعة النفاق دائما فهو ستر للباطن، وإعلان ما يناقضه، وقد أظهروا أنهم يريدون مصلحة المسلمين، وهم يريدون خذلانهم وأظهروا أنهم يقولون الحق عندما كانوا يثبطون المؤمنين، وهم لا ينطقون بالحق، ولا يريدونه.

                                                          ثم ختم الله سبحانه النص الكريم بقوله: والله أعلم بما يكتمون

                                                          أي أنهم يخادعون المؤمنين، ويبدون ما لا يخفون، ويحسبون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين، وقد كشف الله تعالى بعض شئونهم، ليحترس المؤمنون منهم، ولكيلا ينخدعوا بهم، ولكي يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة، وإن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ازداد كيدهم، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، وإن أولئك المنافقين لا يكتفون بتخذيلهم والمعركة قد ابتدأت، بل يظهرون الشماتة بعد أن وقعت، لكي يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم، فقال:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية