الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة

قوله تعالى : كلا إنها تذكرة كلا كلمة ردع وزجر ; أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين ; أي لا تفعل بعدها مثلها : من إقبالك على الغني ، وإعراضك عن المؤمن الفقير . والذي جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ترك الأولى كما تقدم ، ولو حمل على صغيرة لم يبعد ; قاله القشيري . والوقف على كلا على هذا الوجه : جائز . ويجوز أن تقف على تلهى ثم تبتدئ كلا على معنى حقا . إنها أي السورة أو آيات القرآن تذكرة أي موعظة وتبصرة للخلق فمن شاء ذكره أي اتعظ بالقرآن .

قال الجرجاني : إنها أي القرآن ، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة ، أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكره لجاز ; كما قال تعالى في موضع آخر : كلا إنه تذكرة . ويدل على أنه أراد القرآن قوله : فمن شاء ذكره أي كان حافظا له غير ناس ; وذكر الضمير ; لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ .

وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : فمن شاء ذكره قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه . ثم أخبر عن جلالته فقال : في صحف جمع صحيفة مكرمة أي عند الله ; قاله السدي . الطبري : مكرمة في الدين لما فيها من العلم والحكم . وقيل : مكرمة لأنها نزل بها كرام الحفظة ، أو لأنها نازلة [ ص: 186 ] من اللوح المحفوظ . وقيل : مكرمة لأنها نزلت من كريم ; لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه . وقيل : المراد كتب الأنبياء ; دليله : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .

مرفوعة رفيعة القدر عند الله . وقيل : مرفوعة عنده تبارك وتعالى . وقيل : مرفوعة في السماء السابعة ، قالهيحيى بن سلام . الطبري : مرفوعة الذكر والقدر . وقيل : مرفوعة عن الشبه والتناقض . مطهرة قال الحسن : من كل دنس . وقيل : مصانة عن أن ينالها الكفار . وهو معنى قول السدي . وعن الحسن أيضا : مطهرة من أن تنزل على المشركين . وقيل : أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة .

بأيدي سفرة أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله ، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها بأيدي سفرة قال : كتبة . وقاله مجاهد أيضا . وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار ، التي هي الكتب ، واحدهم : سافر ; كقولك : كاتب وكتبة . ويقال : سفرت أي كتبت ، والكتاب : هو السفر ، وجمعه أسفار . قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر ، بكسر السين ، وللكاتب سافر ; لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه . يقال : أسفر الصبح : إذا أضاء ، وسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها . قال : ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم . وقاله الفراء ، وأنشد :


فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغش إن مشيت

والسفير : الرسول والمصلح بين القوم والجمع : سفراء ، مثل فقيه وفقهاء . ويقال للوراقين سفراء ، بلغة العبرانية . وقال قتادة : السفرة هنا : هم القراء ، لأنهم يقرؤون الأسفار . وعنه أيضا كقول ابن عباس . وقال وهب بن منبه : بأيدي سفرة كرام بررة هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن العربي : لقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرة ، كراما بررة ، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية ، ولا قاربوا المرادين بها ، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم . وروي في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له ، مع السفرة الكرام البررة ; ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده ، وهو عليه شديد ، فله أجران متفق عليه ، [ ص: 187 ] واللفظ للبخاري .

كرام أي كرام على ربهم ; قاله الكلبي . الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها . وروى الضحاك عن ابن عباس في كرام قال : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو تبرز لغائطه . وقيل : أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم . بررة جمع بار مثل كافر وكفرة ، وساحر وسحرة ، وفاجر وفجرة ; يقال : بر وبار إذا كان أهلا للصدق ، ومنه بر فلان في يمينه : أي صدق ، وفلان يبر خالقه ويتبرره : أي يطيعه ; فمعنى بررة مطيعون لله ، صادقون لله في أعمالهم . وقد مضى في سورة ( الواقعة ) قوله تعالى :إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون أنهم الكرام البررة في هذه السورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية